سُلْطتي تفككت

سُلْطتي تفككت

[ad_1]

يعيد البعض مصطلح «الأسرة» إلى الأسر بحكم الضبط والربط والتحكم الصارم المترتب على سكنى مجموعة في منزل واحد يغلق بابه في ساعة مبكرة من الليل ولا يتأخر في فتحه مع الفجر لبدء يوم عمل يشترك فيه الجميع بمن فيهم العاجز عن الحركة لكبر أو صغر أو مرض، فلا مهرب من أداء دور يسجل به كل فرد من الأفراد حضورهم في قاموس الإنتاج.

لم يكن الزواج لمجرد الاقتران بشريكة حياة، فالعقد المقدس لشرعنة العلاقة بين رجل وامرأة مرتبط بعادات وطقوس وأعراف بدءاً من اختيار المخلوق المناسب لتحمل التبعات، ويتم إكمال المراسم بآلية مرهقة ومكلفة؛ ولذا لا يفكر ذلك الجيل في تكرارها مرة تالية في ذاك العهد، وعندما يبدأ الحمل والإنجاب تتضاعف البُشرى كون الأيادي العاملة زادت واحداً، ثم يلتزم كل عضو بحقوق وواجبات، وكانت الواجبات مقدمة على الحقوق في المجتمعات الريفية، خصوصاً بين الطبقات الكادحة.

كان الشاب قبل خمسة عقود يتزوج في مرحلة نُضج، وليس الدافع عاطفياً أو شهوانياً، بل يقوم على فكرة الاندماج الاجتماعي بين العوائل واكتساب عوين يسهم في حقل العمل، ما عزّز التقدير والاحترام للمؤسسة الزوجية، ويبدأ الزوجان بترقب ثمرة الزواج خصوصاً مع الفاقة أو التقدم في السن فهم بحاجة للعزوة والمعين من بعد الله، وعيشهم جميعاً تحت ذات السقف، يوطّد العلاقات، ويعزز روح الألفة، ويجمع المنظومة كاملة تحت مظلة الاهتمامات المشتركة.

عشت وجيلي وأجيال قبلنا وبعدنا في ظل سُلطة أبوية وأُسْرة ممتدة، تسكن مع بعضها وبأعداد كبيرة، وفيها الجد والجدة والعم وأولاد العمّ، وتلقينا الكثير من التعاليم والمبادئ والقيم بالتدريب والمشاهدة والاقتداء، ولا يمكن أن يجرؤ فرد من أفراد العائلة على التمرد والاستقلال وإن تزوّج فلا سبيل إلى الانفراد في بيت مستقل، ولو فعلها لنُبذَ ووُصِم بالجحود والنكران والعقوق.

هذه السُّلطة المركزية تفرض مواعيد النوم والاستيقاظ، وتحدد زمن الوجبات، وتوزّع المهام والواجبات، وتكلّف الصغار والكبار بمسؤوليات تفوق قدراتهم وطاقتهم أحياناً، وبقدر ما يُنجز أحدهم من العمل المُتقن يرتقي مكانة، ويتلقى إطراء وإشادة.

ومن اختصاص كبير الأسرة (الأب، العم، الجد) تأمين ما يلزم من طعام وملابس بحسب الإمكانات، فيما الجدة تحتفظ بمفاتيح الصندوق الخاص بالسمن والقهوة وبعض المنتجات الموسمية، ولا تفتح إلا عند قدوم ضيف أو لتطييب نفس الأحب من العيال إذا انكسر خاطره.

هذا الارتباط العنقودي تفكك تدريجياً، وكثير من البيوت لم يعد فيها سوى الأب والأم، فالأبناء والبنات يتزوجون ويستقلون، ومثل ما بدأ المشوار، برأسين في الحلال يعود الوضع لسابق عهده، ومن الملاحظ في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي (أو الغباء البشري) تفكك السُّلطة الأبوية، وممارسة كل فرد من أفراد الأسرة صلاحياته دون رجوع للكبير، فالكل يرى نفسه كبيراً ومؤهلاً لاتخاذ كل القرارات من اختيار اللبس إلى السهر إلى نوعية الطعام المجلوب من خارج المنزل.

لم يعد الآباء والأمهات يتمسكون كثيراً بعيش أولادهم معهم، إلا أن الخشية من انقطاع الصلات الاجتماعية والإنسانية هاجس مسيطر على البعض، في زمن يزداد فيه انشغال فلذات الأكباد بأشياء عدة والتزامات لا نهاية لها، ليس منها الانشغال بالوالدين، وإن لم يكن بقصد العقوق إلا أن الجفاء والهجر والتناسي لمن لهم علينا كبير الفضل جنايةٌ لا تُغتفر، وليست مسألة فيها نظر.

[ad_2]

Source link

Leave a Reply