[ad_1]
يتساءل شاعر غنائي سؤالاً لا يخلو من فلسفة «هي الأيام بتيجي والا الأيام بتروح»؟ فالأيام سيرورة، لا محطات للتوقف، بل أشبه بطرقات ومسارات، لها شرفات، ونوافذ مُشرعةٌ نطلّ منها على الخارج وعلى الذات، وكلما أطل أحدنا من نافذةٍ رأى مناظر، وبشراً، وصوراً وملاحظات، لم يرها من قبل، فيما تقابله مسالك وممرات يطلُّ منها عليه آخرون، ويرون منه أسوأ مما يرى منهم! وتمتد المشاهد باستمرار الإطلالات، وبامتداد السنوات.
غالباً ما تنتصر مشاعرنا لهوى طِباعنا، مُصادِرَةً بالذاتية، كل ما ندّعي أننا نتحلى به من موضوعية، وناسفةً بالنرجسية ما نرفعه من شعارات الانتماء إلى الأخلاق والقيم الإسلامية الكريمة.
ولعلّ سلوك المحروم من الأخلاق، خصوصاً في شهر الخُلق الكريم، ليس نابعاً من حب الذات، بل من كراهيتها، وتدني مستوى احترامه لنفسه، ولربما يتمنى أن يكون إنساناً متميزاً، لكنه لا يعرف، أو يعرف ويستثقل، أو يخشى أن يقال عنه «ضعيف».
ليس بالضرورة أن يكون المُتعلّم راقي الأخلاق، وغير المتعلّم بخلافه، ولا المتديّن نموذجاً في التهذيب، وغير المتديّن سيئ الأدب، فالأخلاق كيان مستقل بذاته، مرتبط بجينات موروثة، وسلوكيات مكتسبة، ولها ارتباط بأمان أو خوف مبكّرين، وإشكالات ولّدت شخصية غير سويّة، ومن الخطأ أن نتساءل على سبيل الاستنكار «متعلّم أو متديّن وقليل أدب»؟
أحاولُ قدر استطاعتي، في أي مناسبة يتاح لي فيها الحديث، التأكيد على أنّ النبيل الأصيل نبيل وأصيل في أساسه الذي لا يتغيّر، فإن اختار التديّن فهو النبيل الأصيل، وإن برع في الطبّ فهو النبيل الأصيل، وإن تفوّق في العلم، وإن برز بالثقافة، وإن أدار مؤسسة، وإن تولّى منصباً، سيظل هو النبيل الأصيل، وما ينجزه وما يحققه أشبه باللباس للجسد، أو الإكسسوارات لآلة أو جهاز، فيما الوضيع الخسيس الدنيء لا يتخلى عن صفاته الهابطة، تديّن أو تعلّم أو تفوّق، فالدناءة والخسة هي الأصل، والإكسسوارات سرعان ما تكشف ما هو مخبوء تحتها.
باتفاق علماء الاجتماع والنفس، أن العِلم والتديّن والكاريزما لا تحلّ محلّ الأخلاق، ولا تُغني عنها، وممكن لكل فنّ، أو تخصص أو توجّه أن يغطي جانباً من جوانب الاحتياج في حياتنا، ويلبّي بعض رغباتنا، وممكن أن يمدنا بمعرفة، أو يعرّفنا على واقع، أو يملأ دور العبادة بالمصلين، فيما الأخلاق هي مظلة لكل نشاط، ومشترك بيننا وبين بعضنا، وبيننا وبين الآخر مُختلفاً ومُخالفاً.
أعرف وتعرفون أناساً من العوام والأميين بلغوا بأخلاقهم مراتب أولياء صالحين، ومن المتعلمين والمتدينين من محا الصورة الجميلة عن المُتعلم والمتديّن، ويظلون في خانة الاستثناء، لا الأصل، ولا القاعدة التي يُحتكم إليها، ويقاس عليها، لأن الجمال أصل، والقُبح طارئ، والتمدن أساس والهمجية عابرة، والعدل قاعدة، والظلم استثناء.
كل إنسان منا مرّ في حياته بشر كأنهم ملائكة، كما يمر بها عشرات الشياطين البشرية، ومن المخالفة لمنهج الله أن نحكم على شخص من خلال ظاهره، ولا موقعه، فلا ترابط ولا تلازم بين ما هو وظيفي وشكلي، وبين ما هو جوهري وفطري.
ومنذ أيام، حاولت عدّ الصفات التي يتمتع بها رمضان، فوجدته، طيباً، مباركاً، صادقاً، مُخلصاً، مُحباً للخير، وكافاً للشرّ، وغاضاً للطرف، كريماً، عفيفاً، نشطاً، وبوجهٍ واحد بشوش، وتساءلتُ، لو كان رمضان إنساناً فمن منا يُشبهه؟
ناس كثير تحب رمضان لكنها لا تشبه رمضان ولا تتشبه به، وربما في كل منّا شيء أو أشياء من صفات رمضان، لكنها ليست كل الأشياء، وبما أننا نتغيّر في رمضان، فهذا دليل على أن الإنسان لديه قابلية للتغيير والتحسن، والتخلص من أسقامه المعنوية.
أرى أن أيّ شخص نُجمع على محبته واحترامه وتقديره، فمؤكد أنه إنسان يشبه رمضان، يتعامل مع الحياة والأحياء وكأنه ضيف، فيه عفة، وله سمت، وعليه وقار، وبه روحانية، ومن محياه نور، وعنده أدب، ومعه خير، ويدرأ عن المحيطين به الأخطار.
كنت في حشد من الناس، فأطلت التأمل والتمقل فيهم، فسألني صاحب، مجاور لي، عمّ تبحث؟ فأجبته: عن إنسان يشبه رمضان، فقال: قم مشينا، اللي تدوّر لهم لن تراهم، فهم يعبدون الله بقلوبهم أكثر من عبادته بجوارحهم، وببواطنهم أكثر من ظاهرهم، ورمضان لا يصنع المعجزات.
طبعاً فيه ناس تظنّ أنها تشبه رمضان، وهذا الظن إثم، لأنّ كل رأس مالها «شكلها» أو «منصبها» أو «فلوسها»، ورمضان ليس شكلاً ولا منصباً ولا فلوساً، بل روح وأخلاق.
ربما أبدو متشائماً أكثر من اللازم، إلا أن ثقتي بالإنسانيين لا تزال في محلها، وبلا حدود، ورمضان فعلاً شهر الخيرات لكنه لا يصنع المعجزات.
كل عام وأنتم بخير وصحة وسلامة وعافية وسلام وأكثر شبهاً برمضان.
[ad_2]
Source link