[ad_1]
وكما هو موثق فإن هذا اللقاء التاريخي بين أسد الجزيرة العربية وموحدها، وزعيم العالم الحر كان مفعماً بالود والكرم وتبادل الهدايا، وفيه جرت محادثات بناءة لوضع حجر الأساس لعلاقات سعودية أمريكية وطيدة ودائمة على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، كما نوقشت مسائل من تلك التي كانت تستأثر باهتمام الملك عبدالعزيز وعلى رأسها حقوق العرب المشروعة في فلسطين بعد تزايد الهجرة اليهودية إليها وتقاعس الإنجليز عن وقفها، واستقلال سورية ولبنان، علاوة على قضايا النفط، والأمن، والتعاون العسكري، ومساعدة الولايات المتحدة للسعودية في تطوير مواردها الزراعية والمائية، وغيرها من الملفات ذات الاهتمام المشترك.
وخلافاً لما يعتقد البعض، فإن تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم يناقش في تلك القمة لأنها كانت قائمة وقتذاك. إذ إن واشنطن والرياض كانتا قد أسّستا روابط دبلوماسية في عام 1933، بعد أن شعرتا بضرورة وجود قناة دبلوماسية دائمة بينهما يمر من خلالها كل ما يتعلق بشؤون الاستكشافات النفطية في شرق السعودية التي منحت امتيازها في تلك السنة لشركة أمريكية هي شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (شركة الزيت العربية الأمريكية/أرامكو لاحقاً)، وكذلك شؤون المواطنين الأمريكيين الذين توافدوا على المملكة للعمل في مرافق الزيت والتدريب. وهكذا شهدت جدة افتتاح أول سفارة أمريكية في المملكة في عام 1944 (انتقلت إلى الرياض في عام 1984)، علاوة على افتتاح قنصليتين للولايات المتحدة في كل من الرياض (عاصمة الحكم) والظهران (عاصمة النفط). وكان التمثيل الأمريكي بجدة في بادئ الأمر على مستوى «قائم بالأعمال»، ثم رفعت واشنطن في 18 مارس 1949 مستوى تمثيلها وعينت J. Rives Childs كأول سفير معتمد لدى المملكة.
11 سفيراً سعودياً
أما السعودية فلم تفتتح لها، في المقابل، ممثلية في واشنطن إلا بعد عام من ذلك التاريخ (أي في سنة 1945)، وأوكلت إدارتها إلى الدبلوماسي «أسعد فقيه» بدرجة وزير مفوض. وفي عام 1949 تمّ رفع رتبته إلى درجة سفير فوق العادة ليصبح أول سفير سعودي معتمد لدى الولايات المتحدة التي خدم فيها مذاك وحتى اليوم 11 سفيراً وهم حسب الترتيب التالي: أسعد فقيه من عام 1945 إلى 1954، عبدالله بن عبدالعزيز الخيال من عام 1954 إلى 1964، إبراهيم بن عبدالله السويل من عام 1964 إلى 1975، علي بن عبدالله بن علي رضا من 1975 إلى 1979، فيصل بن عبدالعزيز الحجيلان من 1979 إلى 1983، الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود من 1983 إلى 2005، الأمير تركي بن فيصل بن عبدالعزيز آل سعود من 2005 إلى 2007، عادل بن أحمد الجبير من 2007 إلى 2015، الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي بن عبدالله آل سعود من 2015 إلى 2017، الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود من 2017 إلى 2019، الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود من 2019 وحتى الآن.
براعة الدبلوماسيين السعوديين
ومنذ ذلك التاريخ، أي قبل أكثر من 75 عاماً، شهدت العلاقات السعودية ــ الأمريكية الكثير من المد والجزر، والتوافق والاختلاف، والفتور والحرارة بسبب تباين الرؤى في السياسات الخارجية، واختلاف المواقف إزاء القضايا والأزمات الدولية، لكنها بصفة عامة ظلت مستمرة ومثمرة ومتنامية، بمعنى أنها لم تصل في أي وقت من الأوقات إلى حد القطيعة والنفور التام. وما كان ذلك ليحدث لولا براعة السفراء السعوديين المعتمدين في واشنطن لجهة نزع فتيل الخلافات الطارئة بما عُرف عنهم من دبلوماسية وكياسة وحكمة وحسن تدبير، ناهيك عن التزام السعودية في سياساتها الخارجية بمبدأ التعاون مع أصدقائها والعمل معهم بشفافية وصدق.
مواليد «عاليه» اللبناني
ولد السفير أسعد منصور فقيه في مصيف عاليه اللبناني في يناير 1910 لعائلة لبنانية من بني معروف العرب، وهم من الطائفة الدرزية المنتشرة في لبنان وفلسطين وجبل حوران بسورية، والذين يسمون أنفسهم أيضاً «الموحدين» نسبة إلى عقيدتهم الأساسية في «توحيد الله». وجاء ميلاده ثمرة لاقتران والده منصور فقيه بوالدته ياقوت أبي مرشد. أما وفاته فقد كانت عن عمر ناهز 79 عاماً في أبريل 1989 بمنزله في ولنت كريك Walnut Creek بولاية كاليفورنيا الأمريكية بسبب سرطان البروستات، حيث خلف وراءه زوجته «ياقوت شاهين فقيه» التي تزوجها في عاليه سنة 1931، وسبعة أبناء (خمس من الإناث واثنان من الذكور)، جميعهم ولدوا في لبنان باستثناء عايدة فقيه التي ولدت بالطائف في عام 1935، وغيداء فقيه التي ولدت ببغداد في عام 1944، وهدى فقيه التي ولدت بواشنطن في عام 1955.
إن اختيار الملك عبدالعزيز لشخصية لبنانية درزية لتمثيل بلاده في كبرى عواصم العالم في حقبة مفصلية لهو أكبر دليل على أن السعودية منذ تأسيسها كانت منفتحة على مختلف الأعراق والمذاهب والجنسيات، ولا تجد غضاضة في إسناد المهمات الرسمية الكبيرة لبعض العرب المؤهلين والمخلصين والأكفاء، بل ولا تمانع من منح جنسيتها لهم كما حدث للسفير فقيه وغيره ممن وفدوا إلى المملكة في مرحلة البناء والتأسيس والتحقوا بديوان الملك المؤسس كمستشارين وخبراء من مصر ولبنان وفلسطين وسورية والعراق وليبيا.
العمل في الخارجية السعودية
تخرج أسعد فقيه من المدرسة الثانوية في مسقط رأسه بعاليه بنجاح ملفت للنظر. وعلى إثر ذلك انتقل إلى بيروت للالتحاق فيها بالجامعة اليسوعية (تأسست عام 1875) التي منحته بكالوريوس الحقوق في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين تقريباً. لم يعمل الرجل بعد تخرجه في مهنة المحاماة طويلاً، إذ سرعان ما جاءه عرض للعمل بوزارة الخارجية السعودية بجدة التي كانت قد تأسست عام 1930 ووُضع على رأسها نائب الملك في الحجاز آنذاك الأمير فيصل بن عبدالعزيز. وهكذا سافر إلى جدة مصطحباً عقيلته وابنته الكبرى سلمى فقيه ليتم تعيينه بدءاً من 10 نوفمبر في وظيفة معاون ثانٍ بوزارة الخارجية. وفي 3 مارس 1933 صدر أمر ملكي بنقله إلى بغداد لشغل وظيفة سكرتير ثانٍ في المفوضية السعودية هناك زمن الحكم الملكي الهاشمي. وفي عام 1943 تمت ترقيته بتعيينه وزيراً مفوضاً للسعودية لدى المملكة العراقية.
ثقة الفيصل
يبدو أن الفيصل كان واثقاً من إخلاص أسعد فقيه ومواهبه القانونية والعلمية فقرّبه ثم اختاره ضمن أعضاء الوفد الذي رافقه إلى مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية سنة 1945 للمشاركة في الاجتماع الدولي الكبير الذي انتهى بتأسيس هيئة الأمم المتحدة وتوقيع دول العالم على ميثاقها لتحل مكان عصبة الأمم. ومن دلائل اطمئنان وثقة الفيصل بفقيه أنه تعلّم على يده اللغة الفرنسية. وبعد فترة قصيرة من لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في البحيرات المرة، كما أشرنا آنفاً، صدر قرار من الملك، بتوصية من الفيصل، يقضي بتعيين فقيه كأول ممثل للسعودية لدى الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه أرسل الفيصل خطاباً مؤرخاً في 21 يوليو 1948 إلى السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك النرويجي «تريفي لي» يخبره بتعيين فقيه ممثلاً للحكومة السعودية في الأمم المتحدة.
والمنصب الأخير كان جديداً ولم يشغله أحد قبله. ويبدو أن المهام والمسؤوليات العديدة التي كانت ملقاة على عاتق فقيه كممثل للمملكة في واشنطن، دفعت الفيصل، بعد فترة وجيزة، لتكليف شخصية أخرى للقيام بمهمة التمثيل لدى الأمم المتحدة. ولم تكن هذه الشخصية سوى المهاجر اللبناني «جميل البارودي» (ت:1979) الذي كان الفيصل قد تعرف عليه في الولايات المتحدة ووجد فيه خطيباً مفوهاً ذا نبض عروبي ودراية واسعة في الشؤون العامة واللغات الأجنبية بحكم تخرجه من جامعة برينستون الأمريكية الراقية. والحقيقة أن اختيار سموه كان موفقاً، إذ أبلى البارودي بلاء حسناً لجهة التحدث باسم كل العرب من منبر الأمم المتحدة، بدليل ما كتبه الكثيرون عنه لجهة تميز خطبه ومناقشاته وسجالاته بالبلاغة والحيوية والذكاء والاستشهادات التاريخية والعلمية والإنسانية، ومنها وصف مجلة التايم الأمريكية له بـ«القنبلة الموقوتة والصاروخ الموجه».
من المناصب الأخرى التي كُلف بها فقيه إبان خدمته الدبلوماسية في واشنطن، تمثيل السعودية كسفير غير مقيم في كل من كندا والمكسيك. وتشير بعض المصادر إلى أن فقيه مثّل السعودية أيضاً في كوبا كسفير غير مقيم. إلا أن هذا غير صحيح. ذلك أن الرياض وهافانا تبادلا وثائق التمثيل الدبلوماسي في عام 1956 أي قبل قيام الثورة الشيوعية الكوبية بثلاث سنوات، لكن دون إقدام أي منهما على فتح سفارة لدى الطرف الآخر. واستمر هذا الوضع إلى عام 2011 حينما باشرت السفارة السعودية مهماتها في هافانا. وكان لفقيه أيضاً دور في تأسيس السفارتين السعوديتين في كل من جمهورية الصين الوطنية (تايوان) واليابان دون أن يتولى قيادتهما بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية التي نعته وقت وفاته وسردت شيئاً من سيرته العلمية والوظيفية.
10 سنوات في واشنطن.. أحداث وتحولات
استمر أسعد فقيه في عمله الدبلوماسي بواشنطن نحو عشر سنوات إلا قليلاً، أي كان سفيراً في الفترة الأخيرة من رئاسة فرانكلين روزفلت (من 1945 إلى 1949) ثم خلال فترتي رئاسة هاري ترومان (من 1945 إلى 1949، ثم من 1949 إلى 1953)، وبذلك عاصر الرجل أحداثاً مهمة في التاريخ الأمريكي والعالمي الحديث مثل القرار الأمريكي بإلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين رداً على قصف المقاتلات اليابانية ميناء بيرل هاربر في هاواي سنة 1941، وانتهاء الحرب في أوروبا بانتصار الحلفاء، وإطلاق مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، وانعقاد مؤتمر بوتسدام لتقرير كيفية إدارة ألمانيا المهزومة، ودخول الولايات المتحدة في نزاعات عمالية ونقص في الحبوب وأزمة تضخم، وبدء الحرب الكورية وانخراط الأمريكيين فيها، وتأسيس الكيان العبري في فلسطين ومسارعة واشنطن بالاعتراف به وتقديم الدعم له، وظهور البوادر الأولى للحرب الباردة.
وإبان عمله في واشنطن، وتحديداً في عام 1947، قام فقيه بصفته الوظيفية بالانضمام إلى الوفد السعودي المرافق لولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز (الملك لاحقاً) الذي قام بأول زيارة رسمية لمسؤول سعودي كبير إلى الولايات المتحدة في 14 يناير 1947 بدعوة من الرئيس هاري ترومان. وكان الوفد المرافق لسمو ولي العهد مكوناً من فؤاد حمزة وحمد السليمان وعلي بن عبدالله بن علي رضا والدكتور مدحت شيخ الأرض والطبيب الخاص لسموه الدكتور أديب عنتابي واللواء محمد النملة. كما حضر بصفته الدبلوماسية مراسم توقيع الأمير (الملك) فيصل بن عبدالعزيز (رحمه الله) على ميثاق تأسيس هيئة الأمم المتحدة وانضمام السعودية إليها بمدينة سان فرانسيسكو في 26 يونيو 1945.
وحينما جاء عام 1955 طلب فقيه أن يُنقل من واشنطن، فاستُجيب لطلبه، وخلفه في منصبه السفير عبدالله بن عبدالعزيز الخيال (ت:2009). في السنوات التالية شغل فقيه مناصب رفيعة في الخارجية السعودية، لعل أهمها منصب المفتش العام بالوزارة للمؤسسات والبعثات الأجنبية بمرتبة وزير مفوض فوق العادة. وفي عام 1963 طلب فقيه التقاعد المبكر للاهتمام بشؤونه الخاصة والعائلية. وبتقاعده اختار الإقامة الدائمة مع أسرته في مصيف عاليه الذي تملّك فيه منزلاً فخماً جديداً، قبل أن يقرر في عام 1984 الانتقال للعيش في مدينة والنت كريك الخلابة الواقعة إلى الشرق من مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، والتي شهدت أواخر سنوات حياته ووفاته.
[ad_2]
Source link