[ad_1]
اتساع السخط الشعبي ضد سياساته.. وتعمق عزلته الدولية
من أزمة إلى أخرى، ودون توقُّف عن إقحام البلاد في مزيد من الأزمات، حوّل الرئيس رجب طيب أردوغان واقع الشعب التركي إلى سلسلة من الأزمات المتعاقبة.. ما يفتأ يفرض عليه واحدة حتى يباغته بالتي تليها، دواليك بلا انقطاع حتى غرقت تركيا في الأزمات، وبات نظامه أزمتها المستعصية التي لا خلاص لها إلا بطي صفحته إلى الأبد. كما تجمع حاليًا المعارضة التركية، التي تكتسب مؤيدين جددًا لها كل يوم مع استمرار التفاقم في أداء الاقتصاد التركي، لكن كثرة إشعال “أردوغان” للأزمات الخارجية، ولاسيما في المحيط الإقليمي، أصبحت مسار تساؤل من جانب المحللين الدوليين بعد تحوُّلها إلى اتجاه أساسي في سياسته الخارجية؛ ما جعل النظام التركي يقتات على افتعال الأزمات واستثمارها؛ ليستمر في الاستئثار بالسلطة. فما دوافع “أردوغان” إلى هذا المسلك العدواني؟ وما خطورته على مستقبل المنطقة؟ وهل يضمن بقاءه في الحكم؟
شفير المواجهة
بعد شهر على سحب سفينة التنقيب “عروج ريس” من المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط الغنية بالغاز الطبيعي، أعاد نظام “أردوغان” منتصف الأسبوع الماضي إرسال السفينة إلى المنطقة مرة أخرى؛ ليطيل أمد الأزمة التي فاقمها في نوفمبر الماضي، بعد أن أبرم اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة من جانب اليونان وقبرص ومصر، وأدى إلى وضع المنطقة على شفير مواجهة عسكرية في خضم إجراء اليونان وقبرص وإيطاليا وفرنسا مناورات عسكرية بحرية، ردت عليها تركيا بمناورة متزامنة؛ ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تهديد تركيا بتفعيل الإطار القانوني للعقوبات ضدها الذي أنشأه في 2019، ويشمل تجميد الأصول، ومنع استخدام موانئ الدول الأعضاء في التكتل، وحظر السفر؛ لإجبارها على خفض التصعيد، والقبول بخيار التفاوض مع اليونان.
ورغم حداثة إعادة تأجيج أزمة شرق المتوسط إلا أنها لم تكن بعيدة العهد عن أزمة أخرى، فجّرها النظام التركي قبلها بثلاثة أيام فقط؛ إذ أقدم على فتح مدينة فاروشا السياحية الواقعة في المنطقة العازلة في قبرص، والمغلقة تمامًا منذ احتلال تركيا قبرص، وتقسيمها عام 1974، منتهكًا بذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 550 لعام 1984، الذي ينص على اعتبار فاروشا مدينة محمية لا يمكن أن يقطنها سوى سكانها الأصليين، الذين اضطروا إلى الفرار منها إبان الغزو التركي. وبإثارته تلك الأزمة تسبب النظام في تعميق عزلة تركيا دوليًّا، ولاسيما بعد أن انتقد الاتحاد الأوروبي قرار أنقرة، مشددًا على أنه مقوض للثقة، بينما طالب مجلس الأمن الدولي بالتراجع عنه.
تأجيج التوترات
ومراجعة مدونة الأحداث الساخنة في العالم خلال شهر سبتمبر الماضي تشير إلى أن تركيا فجّرت أزمة خطيرة جنوب منطقة القوقاز؛ وذلك بعد أن أججت حمى التوترات بين أذربيجان وأرمينيا حول نزاعهما على إقليم ناجورنو كاراباخ؛ ما أدى إلى إعادة إشعال فتيل الحرب بينهما بعد قرابة 26 عامًا من التهدئة في أعقاب الحرب الطاحنة التي نشبت بينهما بين عامَي 1992 و1994. ولم تكتفِ تركيا بدعم أذربيجان بالأسلحة المتطورة والخبراء العسكريين؛ فأرسلت – بحسب ما كشفت “رويترز” والمرصد السوري لحقوق الإنسان- آلاف المسلحين السوريين إلى جبهات القتال لمساندة أذربيجان في استهانة خطيرة بعواقب سلوكها في إشعال تلك الأزمة، التي يخشى من تحولها إلى حرب إقليمية نتيجة للعلاقات المعقدة بين الشعوب التي تسكن هذه المنطقة من العالم.
ولم يتوقف نظام “أردوغان” خلال الشهور الماضية، حتى السبت الماضي، عن انتهاك سيادة العراق، والعدوان على مناطقه الشمالية المتاخمة لتركيا بذريعة ضرب قواعد حزب العمال الكردستاني. ولا ينبع شن النظام التركي عدوانه المتكرر على شمال العراق على فترات متباعدة حينًا، وعلى فترات متواصلة حينًا آخر، من حاجات تركيا الأمنية، بل يتجاوب مع توظيف “أردوغان” السياسة الخارجية لبلاده، بما يخدم شعبيته المتراجعة ومصالحه الحزبية، تحت ضغوط الانقسامات التي تضرب حزبه الحاكم، وأدت إلى انشقاق كثير من قياداته المؤسسين، بينهم رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، إضافة إلى أن لجوء “أردوغان” لخيار الهجوم الدائم على أراضي العراق يهدف -بحسب ما خلص مدير معهد علم الاجتماع في جامعة سوران بكردستان العراق عادل بكوان، في مقابلة مع قناة “فرانس 24”- إلى تسويق صورة جديدة له كقائد حرب، أملاً في صرف أنظار الأتراك عن إخفاقاته الاقتصادية.
نزوع عدواني
وبنهمه الذي لا يشبع من إثارة الأزمات، استغل “أردوغان” العزلة الإقليمية، التي تعاني منها حكومة الوفاق الليبية، وتدخل في شؤون ليبيا، تقوده أطماعه للاستيلاء على خيرات ليبيا الغنية بمصادر الطاقة، وذات الموقع الاستراتيجي في حوض البحر المتوسط، فوقع اتفاقيتَين، إحداهما أمنية، أرسل في ضوئها قوات عسكرية، ومرتزقة سوريين، وسلاحًا إلى حكومة الوفاق. والثانية في المجال البحري، رسم بناء عليها الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، رغم أن تركيا لا تمتلك سوى 12 ميلاً بحريًّا فقط، وفقًا لاتفاقية البحار لعام 1982 كحدود بحرية. ورغم وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي؛ ما يجعل الاتفاقية مخالفة لقانون البحار الدولي، ومنتهكة لسيادة اليونان، غير أن “أردوغان” الطامع في ثروات ليبيا من النفط والغاز؛ ليعوض الفقر الذي تعاني منه بلاده منهما، ويضطرها إلى استيراد 95 في المئة من احتياجاتها من الطاقة سنويًّا، اختار التحايل على القوانين الدولية، وتجاهل التوازنات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا المرتبطة بمصالح مصر؛ فضاعف دعمه العسكري لحكومة الوفاق؛ ليستخدمها رأس حربة في الاقتراب من مصر، وتهديد أمنها القومي؛ ما دفع القاهرة إلى حشد قوات عسكرية ضخمة على حدودها مع ليبيا استعدادًا للتدخل فيها، إذا تجاوزت قوات حكومة الوفاق خط سرت الجفرة عقب انتزاعها مناطق عدة في غرب ليبيا من الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، وتقدمها لمحاصرة مدينة سرت تمهيدًا لاجتياحها، والاستيلاء على منطقة الهلال النفطي في شرق ليبيا، التي تضم أكبر مخزون نفطي للبلاد، ولكن الموقف الصارم الذي أبدته مصر أحبط أطماعه، وإن ظلت نذر المواجهة العسكرية بين الدولتين قائمة، وخاضعة لنزوع “أردوغان” العدواني لدفع الأمور إلى حافة الهاوية.
احتلال جائر
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية استمر نظام “أردوغان” في قضم الأراضي السورية في شمال البلاد، من خلال شن ثلاث عمليات عسكرية واسعة النطاق، بدأت بعملية “درع الفرات” في أغسطس 2016، ثم أتبعها في يناير 2018 بعميلة “غصن الزيتون”، التي لم يكتفِ بها؛ فشن في أكتوبر 2019 عملية “نبع السلام”، التي بسط خلالها سيطرة تركيا على مساحة 8835 كيلومترًا مربعًا من التراب السوري، تمتد لمسافة 480 كيلومترًا على طول الجانب السوري من الحدود بين البلدين، بعمق 32 كيلومترًا داخل الأراضي السورية. ومن الأيام الأولى لاحتلال المنطقة، التي تضم أكثر من ألف بلدة، شرع النظام التركي في تغيير هويتها الوطنية تمامًا، وأعطى الأولوية لتغيير التركيبة السكانية للمنطقة؛ فاستقدم إليها الآلاف من اللاجئين السوريين في تركيا؛ ليحلوا محل مئات الآلاف من الأكراد، الذين شردهم عن ديارهم وممتلكاتهم، كما غيّر مناهج التعليم، وفرض تدريس اللغة التركية، ورفع العلم التركي على كل المؤسسات العامة، وربطها إداريًّا بنظيرتها في تركيا، في احتلال جائر، غيّر كل معالم المنطقة حتى أسماء الشوارع.
وترجع أسباب إشعال النظام التركي الأزمات الخارجية إلى فشله في إدارة اقتصاد البلاد؛ فبحسب أحمد داود أوغلو فإن “تركيا تعيش أزمة اقتصادية تاريخية، لا يستطيع أحد أن ينكرها”. وقد بدأت تلك الأزمة مع انهيار العملة إلى مستويات متدنية في عام 2018، وما رافقها من ارتفاع للتضخم، ثم استمرت خلال عام 2019 إلى أن ازداد تفاقمها في عام 2020 مع انتشار فيروس كورونا؛ ما أدى إلى انهيار قيمة العملة التركية، التي تراجعت الأربعاء الماضي أمام الدولار إلى 7.96 ليرة للمرة الأولى في تاريخها. كما أدت الأزمة الاقتصادية إلى تهاوي الاستثمارات الخارجية والتمويل الأجنبي، والعجز عن سداد الديون المستحقة على الحكومة والشركات التركية، وهو الوضع الذي دفع مؤسسة “موديز” في سبتمبر الماضي إلى تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا إلى مستوى “B2″، وإبقاء النظرة المستقبلية للبلاد سلبية، بما يعادل التصنيف الذي بلغته رواندا وجامايكا.
استمرار التدهور
وأمام عجزه عن إنهاء أزمة الاقتصاد التركي، أو وقف تدهورها إلى مستويات أعمق، لم يجد النظام التركي وسيلة لصرف تركيز الأتراك على معاناتهم منها، سوى تحويل اهتمامهم إلى الأزمات الخارجية، التي يعمد خلالها إلى استغلال مشاعرهم الدينية والقومية. فوفقًا للباحث الزائر بمركز كارنيجي في أوروبا مارك بيريني، فإن “خلاف تركيا واليونان حول الحدود البحرية خلاف تاريخي، لكن استغلال نظام أردوغان له، وتحويله إلى أزمة، يوحد بشكل أو بآخر ألوان الطيف السياسي بأكمله في تركيا وراء النظام. وبناء على هذا النهج ينساق نظام أردوغان لاستغلال النزعة التركية في ثماني دول، بينها أذربيجان التي يبرر التدخل في شؤونها، وإغوائها بخيار الحرب ضد أرمينيا، بزعم الدفاع عن شعبها ذي الأصول التركية.
ولا تقتصر دوافع “أردوغان” على إثارة الأزمات على الهروب من مشاكله الداخلية المزمنة، وإنما يؤججها أيضًا طموحة الشخصي في إحياء الخلافة العثمانية؛ “فأردوغان يحاول بكل الطرق الممكنة استعادة أمجاد الخلافة العثمانية على حساب شعبه، وشعوب البلدان الأخرى، التي تشهد حروبًا مثل ليبيا وسوريا وأذربيجان وأرمينيا”، بحسب ما ذكر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي. ومع عدم ظهور أي مؤشرات تنبئ باحتمالية تغير نهج “أردوغان”، الذي “يعطي الأولوية للقوة على الدبلوماسية”، كما بيّن أحمد داود أوغلو، الذي بات يحيد عن السياسية التي كانت تعتمدها بلاده في تصفير المشاكل مع الخارج، فإن المنتظر أن يواجه العالم مزيدًا من الأزمات التي تؤثر في أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل أهمية حيوية لمصالحه، ولاسيما أن “أردوغان” تسبب في إثارة خمس أزمات عابرة للحدود خلال السنتين الماضيتين، ويعمل بكل جهده على استمرارها.
ولعل “أردوغان” حاليًا هو أكثر الأطراف اعتقادًا بفشل مشروعه، واقتراب نهايته، بعد سنوات من تراكم نتائج سياساته الخاطئة التي أدت إلى انهيار شعبيته، وتراجعها في أوساط كتلته الصلبة؛ “فأردوغان سيرحل عن الحكم لا محالة، وبات يدرك ذلك” كما قال زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، عازيًا ذلك إلى “تصاعد قمع المعارضين، وزيادة معدلات البطالة، وتلاشى مفهوم الدولة الاجتماعية تمامًا”. ولا تنبع الأسباب المؤدية إلى الرحيل المتوقع لـ”أردوغان” فحسب من إخفاقاته الداخلية، واتساع سخط الأتراك ضد سياسته، ورغبتهم في الخلاص من نظامه الرئاسي الاستبدادي الذي يحتكر بموجبه كل السلطات، لكنها ترتبط أيضًا بعزلته الدولية الآخذة في التعمق؛ “فأردوغان أدخل تركيا في عزلة لم تشهدها من قبل على الساحة الدولية” وفقًا لما خلصت إليه وكالة بلومبرج الأمريكية في يوليو الماضي. ومحصلة لكل هذه الأسباب لا يرجح أن يطيل إشعال “أردوغان” للأزمات الخارجية من بقائه في الحكم، ولاسيما أنها تفرز نتائج متعاكسة مع طموحاته؛ فإثارته لأزمة غاز شرق المتوسط أدت إلى تشكيل تحالف إقليمي ضد تركيا، يضم مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، وبقية الأزمات الأخرى ضاعفت من احتقان الأتراك ضده.
أصبح يقتات على إشعالها.. هل تطيل الأزمات الخارجية بقاء “أردوغان” في الحكم؟
محمد صبح
سبق
2020-10-21
من أزمة إلى أخرى، ودون توقُّف عن إقحام البلاد في مزيد من الأزمات، حوّل الرئيس رجب طيب أردوغان واقع الشعب التركي إلى سلسلة من الأزمات المتعاقبة.. ما يفتأ يفرض عليه واحدة حتى يباغته بالتي تليها، دواليك بلا انقطاع حتى غرقت تركيا في الأزمات، وبات نظامه أزمتها المستعصية التي لا خلاص لها إلا بطي صفحته إلى الأبد. كما تجمع حاليًا المعارضة التركية، التي تكتسب مؤيدين جددًا لها كل يوم مع استمرار التفاقم في أداء الاقتصاد التركي، لكن كثرة إشعال “أردوغان” للأزمات الخارجية، ولاسيما في المحيط الإقليمي، أصبحت مسار تساؤل من جانب المحللين الدوليين بعد تحوُّلها إلى اتجاه أساسي في سياسته الخارجية؛ ما جعل النظام التركي يقتات على افتعال الأزمات واستثمارها؛ ليستمر في الاستئثار بالسلطة. فما دوافع “أردوغان” إلى هذا المسلك العدواني؟ وما خطورته على مستقبل المنطقة؟ وهل يضمن بقاءه في الحكم؟
شفير المواجهة
بعد شهر على سحب سفينة التنقيب “عروج ريس” من المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط الغنية بالغاز الطبيعي، أعاد نظام “أردوغان” منتصف الأسبوع الماضي إرسال السفينة إلى المنطقة مرة أخرى؛ ليطيل أمد الأزمة التي فاقمها في نوفمبر الماضي، بعد أن أبرم اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة من جانب اليونان وقبرص ومصر، وأدى إلى وضع المنطقة على شفير مواجهة عسكرية في خضم إجراء اليونان وقبرص وإيطاليا وفرنسا مناورات عسكرية بحرية، ردت عليها تركيا بمناورة متزامنة؛ ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تهديد تركيا بتفعيل الإطار القانوني للعقوبات ضدها الذي أنشأه في 2019، ويشمل تجميد الأصول، ومنع استخدام موانئ الدول الأعضاء في التكتل، وحظر السفر؛ لإجبارها على خفض التصعيد، والقبول بخيار التفاوض مع اليونان.
ورغم حداثة إعادة تأجيج أزمة شرق المتوسط إلا أنها لم تكن بعيدة العهد عن أزمة أخرى، فجّرها النظام التركي قبلها بثلاثة أيام فقط؛ إذ أقدم على فتح مدينة فاروشا السياحية الواقعة في المنطقة العازلة في قبرص، والمغلقة تمامًا منذ احتلال تركيا قبرص، وتقسيمها عام 1974، منتهكًا بذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 550 لعام 1984، الذي ينص على اعتبار فاروشا مدينة محمية لا يمكن أن يقطنها سوى سكانها الأصليين، الذين اضطروا إلى الفرار منها إبان الغزو التركي. وبإثارته تلك الأزمة تسبب النظام في تعميق عزلة تركيا دوليًّا، ولاسيما بعد أن انتقد الاتحاد الأوروبي قرار أنقرة، مشددًا على أنه مقوض للثقة، بينما طالب مجلس الأمن الدولي بالتراجع عنه.
تأجيج التوترات
ومراجعة مدونة الأحداث الساخنة في العالم خلال شهر سبتمبر الماضي تشير إلى أن تركيا فجّرت أزمة خطيرة جنوب منطقة القوقاز؛ وذلك بعد أن أججت حمى التوترات بين أذربيجان وأرمينيا حول نزاعهما على إقليم ناجورنو كاراباخ؛ ما أدى إلى إعادة إشعال فتيل الحرب بينهما بعد قرابة 26 عامًا من التهدئة في أعقاب الحرب الطاحنة التي نشبت بينهما بين عامَي 1992 و1994. ولم تكتفِ تركيا بدعم أذربيجان بالأسلحة المتطورة والخبراء العسكريين؛ فأرسلت – بحسب ما كشفت “رويترز” والمرصد السوري لحقوق الإنسان- آلاف المسلحين السوريين إلى جبهات القتال لمساندة أذربيجان في استهانة خطيرة بعواقب سلوكها في إشعال تلك الأزمة، التي يخشى من تحولها إلى حرب إقليمية نتيجة للعلاقات المعقدة بين الشعوب التي تسكن هذه المنطقة من العالم.
ولم يتوقف نظام “أردوغان” خلال الشهور الماضية، حتى السبت الماضي، عن انتهاك سيادة العراق، والعدوان على مناطقه الشمالية المتاخمة لتركيا بذريعة ضرب قواعد حزب العمال الكردستاني. ولا ينبع شن النظام التركي عدوانه المتكرر على شمال العراق على فترات متباعدة حينًا، وعلى فترات متواصلة حينًا آخر، من حاجات تركيا الأمنية، بل يتجاوب مع توظيف “أردوغان” السياسة الخارجية لبلاده، بما يخدم شعبيته المتراجعة ومصالحه الحزبية، تحت ضغوط الانقسامات التي تضرب حزبه الحاكم، وأدت إلى انشقاق كثير من قياداته المؤسسين، بينهم رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، إضافة إلى أن لجوء “أردوغان” لخيار الهجوم الدائم على أراضي العراق يهدف -بحسب ما خلص مدير معهد علم الاجتماع في جامعة سوران بكردستان العراق عادل بكوان، في مقابلة مع قناة “فرانس 24”- إلى تسويق صورة جديدة له كقائد حرب، أملاً في صرف أنظار الأتراك عن إخفاقاته الاقتصادية.
نزوع عدواني
وبنهمه الذي لا يشبع من إثارة الأزمات، استغل “أردوغان” العزلة الإقليمية، التي تعاني منها حكومة الوفاق الليبية، وتدخل في شؤون ليبيا، تقوده أطماعه للاستيلاء على خيرات ليبيا الغنية بمصادر الطاقة، وذات الموقع الاستراتيجي في حوض البحر المتوسط، فوقع اتفاقيتَين، إحداهما أمنية، أرسل في ضوئها قوات عسكرية، ومرتزقة سوريين، وسلاحًا إلى حكومة الوفاق. والثانية في المجال البحري، رسم بناء عليها الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، رغم أن تركيا لا تمتلك سوى 12 ميلاً بحريًّا فقط، وفقًا لاتفاقية البحار لعام 1982 كحدود بحرية. ورغم وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي؛ ما يجعل الاتفاقية مخالفة لقانون البحار الدولي، ومنتهكة لسيادة اليونان، غير أن “أردوغان” الطامع في ثروات ليبيا من النفط والغاز؛ ليعوض الفقر الذي تعاني منه بلاده منهما، ويضطرها إلى استيراد 95 في المئة من احتياجاتها من الطاقة سنويًّا، اختار التحايل على القوانين الدولية، وتجاهل التوازنات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا المرتبطة بمصالح مصر؛ فضاعف دعمه العسكري لحكومة الوفاق؛ ليستخدمها رأس حربة في الاقتراب من مصر، وتهديد أمنها القومي؛ ما دفع القاهرة إلى حشد قوات عسكرية ضخمة على حدودها مع ليبيا استعدادًا للتدخل فيها، إذا تجاوزت قوات حكومة الوفاق خط سرت الجفرة عقب انتزاعها مناطق عدة في غرب ليبيا من الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، وتقدمها لمحاصرة مدينة سرت تمهيدًا لاجتياحها، والاستيلاء على منطقة الهلال النفطي في شرق ليبيا، التي تضم أكبر مخزون نفطي للبلاد، ولكن الموقف الصارم الذي أبدته مصر أحبط أطماعه، وإن ظلت نذر المواجهة العسكرية بين الدولتين قائمة، وخاضعة لنزوع “أردوغان” العدواني لدفع الأمور إلى حافة الهاوية.
احتلال جائر
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية استمر نظام “أردوغان” في قضم الأراضي السورية في شمال البلاد، من خلال شن ثلاث عمليات عسكرية واسعة النطاق، بدأت بعملية “درع الفرات” في أغسطس 2016، ثم أتبعها في يناير 2018 بعميلة “غصن الزيتون”، التي لم يكتفِ بها؛ فشن في أكتوبر 2019 عملية “نبع السلام”، التي بسط خلالها سيطرة تركيا على مساحة 8835 كيلومترًا مربعًا من التراب السوري، تمتد لمسافة 480 كيلومترًا على طول الجانب السوري من الحدود بين البلدين، بعمق 32 كيلومترًا داخل الأراضي السورية. ومن الأيام الأولى لاحتلال المنطقة، التي تضم أكثر من ألف بلدة، شرع النظام التركي في تغيير هويتها الوطنية تمامًا، وأعطى الأولوية لتغيير التركيبة السكانية للمنطقة؛ فاستقدم إليها الآلاف من اللاجئين السوريين في تركيا؛ ليحلوا محل مئات الآلاف من الأكراد، الذين شردهم عن ديارهم وممتلكاتهم، كما غيّر مناهج التعليم، وفرض تدريس اللغة التركية، ورفع العلم التركي على كل المؤسسات العامة، وربطها إداريًّا بنظيرتها في تركيا، في احتلال جائر، غيّر كل معالم المنطقة حتى أسماء الشوارع.
وترجع أسباب إشعال النظام التركي الأزمات الخارجية إلى فشله في إدارة اقتصاد البلاد؛ فبحسب أحمد داود أوغلو فإن “تركيا تعيش أزمة اقتصادية تاريخية، لا يستطيع أحد أن ينكرها”. وقد بدأت تلك الأزمة مع انهيار العملة إلى مستويات متدنية في عام 2018، وما رافقها من ارتفاع للتضخم، ثم استمرت خلال عام 2019 إلى أن ازداد تفاقمها في عام 2020 مع انتشار فيروس كورونا؛ ما أدى إلى انهيار قيمة العملة التركية، التي تراجعت الأربعاء الماضي أمام الدولار إلى 7.96 ليرة للمرة الأولى في تاريخها. كما أدت الأزمة الاقتصادية إلى تهاوي الاستثمارات الخارجية والتمويل الأجنبي، والعجز عن سداد الديون المستحقة على الحكومة والشركات التركية، وهو الوضع الذي دفع مؤسسة “موديز” في سبتمبر الماضي إلى تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا إلى مستوى “B2″، وإبقاء النظرة المستقبلية للبلاد سلبية، بما يعادل التصنيف الذي بلغته رواندا وجامايكا.
استمرار التدهور
وأمام عجزه عن إنهاء أزمة الاقتصاد التركي، أو وقف تدهورها إلى مستويات أعمق، لم يجد النظام التركي وسيلة لصرف تركيز الأتراك على معاناتهم منها، سوى تحويل اهتمامهم إلى الأزمات الخارجية، التي يعمد خلالها إلى استغلال مشاعرهم الدينية والقومية. فوفقًا للباحث الزائر بمركز كارنيجي في أوروبا مارك بيريني، فإن “خلاف تركيا واليونان حول الحدود البحرية خلاف تاريخي، لكن استغلال نظام أردوغان له، وتحويله إلى أزمة، يوحد بشكل أو بآخر ألوان الطيف السياسي بأكمله في تركيا وراء النظام. وبناء على هذا النهج ينساق نظام أردوغان لاستغلال النزعة التركية في ثماني دول، بينها أذربيجان التي يبرر التدخل في شؤونها، وإغوائها بخيار الحرب ضد أرمينيا، بزعم الدفاع عن شعبها ذي الأصول التركية.
ولا تقتصر دوافع “أردوغان” على إثارة الأزمات على الهروب من مشاكله الداخلية المزمنة، وإنما يؤججها أيضًا طموحة الشخصي في إحياء الخلافة العثمانية؛ “فأردوغان يحاول بكل الطرق الممكنة استعادة أمجاد الخلافة العثمانية على حساب شعبه، وشعوب البلدان الأخرى، التي تشهد حروبًا مثل ليبيا وسوريا وأذربيجان وأرمينيا”، بحسب ما ذكر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي. ومع عدم ظهور أي مؤشرات تنبئ باحتمالية تغير نهج “أردوغان”، الذي “يعطي الأولوية للقوة على الدبلوماسية”، كما بيّن أحمد داود أوغلو، الذي بات يحيد عن السياسية التي كانت تعتمدها بلاده في تصفير المشاكل مع الخارج، فإن المنتظر أن يواجه العالم مزيدًا من الأزمات التي تؤثر في أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل أهمية حيوية لمصالحه، ولاسيما أن “أردوغان” تسبب في إثارة خمس أزمات عابرة للحدود خلال السنتين الماضيتين، ويعمل بكل جهده على استمرارها.
ولعل “أردوغان” حاليًا هو أكثر الأطراف اعتقادًا بفشل مشروعه، واقتراب نهايته، بعد سنوات من تراكم نتائج سياساته الخاطئة التي أدت إلى انهيار شعبيته، وتراجعها في أوساط كتلته الصلبة؛ “فأردوغان سيرحل عن الحكم لا محالة، وبات يدرك ذلك” كما قال زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، عازيًا ذلك إلى “تصاعد قمع المعارضين، وزيادة معدلات البطالة، وتلاشى مفهوم الدولة الاجتماعية تمامًا”. ولا تنبع الأسباب المؤدية إلى الرحيل المتوقع لـ”أردوغان” فحسب من إخفاقاته الداخلية، واتساع سخط الأتراك ضد سياسته، ورغبتهم في الخلاص من نظامه الرئاسي الاستبدادي الذي يحتكر بموجبه كل السلطات، لكنها ترتبط أيضًا بعزلته الدولية الآخذة في التعمق؛ “فأردوغان أدخل تركيا في عزلة لم تشهدها من قبل على الساحة الدولية” وفقًا لما خلصت إليه وكالة بلومبرج الأمريكية في يوليو الماضي. ومحصلة لكل هذه الأسباب لا يرجح أن يطيل إشعال “أردوغان” للأزمات الخارجية من بقائه في الحكم، ولاسيما أنها تفرز نتائج متعاكسة مع طموحاته؛ فإثارته لأزمة غاز شرق المتوسط أدت إلى تشكيل تحالف إقليمي ضد تركيا، يضم مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، وبقية الأزمات الأخرى ضاعفت من احتقان الأتراك ضده.
21 أكتوبر 2020 – 4 ربيع الأول 1442
02:00 AM
اتساع السخط الشعبي ضد سياساته.. وتعمق عزلته الدولية
من أزمة إلى أخرى، ودون توقُّف عن إقحام البلاد في مزيد من الأزمات، حوّل الرئيس رجب طيب أردوغان واقع الشعب التركي إلى سلسلة من الأزمات المتعاقبة.. ما يفتأ يفرض عليه واحدة حتى يباغته بالتي تليها، دواليك بلا انقطاع حتى غرقت تركيا في الأزمات، وبات نظامه أزمتها المستعصية التي لا خلاص لها إلا بطي صفحته إلى الأبد. كما تجمع حاليًا المعارضة التركية، التي تكتسب مؤيدين جددًا لها كل يوم مع استمرار التفاقم في أداء الاقتصاد التركي، لكن كثرة إشعال “أردوغان” للأزمات الخارجية، ولاسيما في المحيط الإقليمي، أصبحت مسار تساؤل من جانب المحللين الدوليين بعد تحوُّلها إلى اتجاه أساسي في سياسته الخارجية؛ ما جعل النظام التركي يقتات على افتعال الأزمات واستثمارها؛ ليستمر في الاستئثار بالسلطة. فما دوافع “أردوغان” إلى هذا المسلك العدواني؟ وما خطورته على مستقبل المنطقة؟ وهل يضمن بقاءه في الحكم؟
شفير المواجهة
بعد شهر على سحب سفينة التنقيب “عروج ريس” من المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط الغنية بالغاز الطبيعي، أعاد نظام “أردوغان” منتصف الأسبوع الماضي إرسال السفينة إلى المنطقة مرة أخرى؛ ليطيل أمد الأزمة التي فاقمها في نوفمبر الماضي، بعد أن أبرم اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة من جانب اليونان وقبرص ومصر، وأدى إلى وضع المنطقة على شفير مواجهة عسكرية في خضم إجراء اليونان وقبرص وإيطاليا وفرنسا مناورات عسكرية بحرية، ردت عليها تركيا بمناورة متزامنة؛ ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تهديد تركيا بتفعيل الإطار القانوني للعقوبات ضدها الذي أنشأه في 2019، ويشمل تجميد الأصول، ومنع استخدام موانئ الدول الأعضاء في التكتل، وحظر السفر؛ لإجبارها على خفض التصعيد، والقبول بخيار التفاوض مع اليونان.
ورغم حداثة إعادة تأجيج أزمة شرق المتوسط إلا أنها لم تكن بعيدة العهد عن أزمة أخرى، فجّرها النظام التركي قبلها بثلاثة أيام فقط؛ إذ أقدم على فتح مدينة فاروشا السياحية الواقعة في المنطقة العازلة في قبرص، والمغلقة تمامًا منذ احتلال تركيا قبرص، وتقسيمها عام 1974، منتهكًا بذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 550 لعام 1984، الذي ينص على اعتبار فاروشا مدينة محمية لا يمكن أن يقطنها سوى سكانها الأصليين، الذين اضطروا إلى الفرار منها إبان الغزو التركي. وبإثارته تلك الأزمة تسبب النظام في تعميق عزلة تركيا دوليًّا، ولاسيما بعد أن انتقد الاتحاد الأوروبي قرار أنقرة، مشددًا على أنه مقوض للثقة، بينما طالب مجلس الأمن الدولي بالتراجع عنه.
تأجيج التوترات
ومراجعة مدونة الأحداث الساخنة في العالم خلال شهر سبتمبر الماضي تشير إلى أن تركيا فجّرت أزمة خطيرة جنوب منطقة القوقاز؛ وذلك بعد أن أججت حمى التوترات بين أذربيجان وأرمينيا حول نزاعهما على إقليم ناجورنو كاراباخ؛ ما أدى إلى إعادة إشعال فتيل الحرب بينهما بعد قرابة 26 عامًا من التهدئة في أعقاب الحرب الطاحنة التي نشبت بينهما بين عامَي 1992 و1994. ولم تكتفِ تركيا بدعم أذربيجان بالأسلحة المتطورة والخبراء العسكريين؛ فأرسلت – بحسب ما كشفت “رويترز” والمرصد السوري لحقوق الإنسان- آلاف المسلحين السوريين إلى جبهات القتال لمساندة أذربيجان في استهانة خطيرة بعواقب سلوكها في إشعال تلك الأزمة، التي يخشى من تحولها إلى حرب إقليمية نتيجة للعلاقات المعقدة بين الشعوب التي تسكن هذه المنطقة من العالم.
ولم يتوقف نظام “أردوغان” خلال الشهور الماضية، حتى السبت الماضي، عن انتهاك سيادة العراق، والعدوان على مناطقه الشمالية المتاخمة لتركيا بذريعة ضرب قواعد حزب العمال الكردستاني. ولا ينبع شن النظام التركي عدوانه المتكرر على شمال العراق على فترات متباعدة حينًا، وعلى فترات متواصلة حينًا آخر، من حاجات تركيا الأمنية، بل يتجاوب مع توظيف “أردوغان” السياسة الخارجية لبلاده، بما يخدم شعبيته المتراجعة ومصالحه الحزبية، تحت ضغوط الانقسامات التي تضرب حزبه الحاكم، وأدت إلى انشقاق كثير من قياداته المؤسسين، بينهم رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، إضافة إلى أن لجوء “أردوغان” لخيار الهجوم الدائم على أراضي العراق يهدف -بحسب ما خلص مدير معهد علم الاجتماع في جامعة سوران بكردستان العراق عادل بكوان، في مقابلة مع قناة “فرانس 24”- إلى تسويق صورة جديدة له كقائد حرب، أملاً في صرف أنظار الأتراك عن إخفاقاته الاقتصادية.
نزوع عدواني
وبنهمه الذي لا يشبع من إثارة الأزمات، استغل “أردوغان” العزلة الإقليمية، التي تعاني منها حكومة الوفاق الليبية، وتدخل في شؤون ليبيا، تقوده أطماعه للاستيلاء على خيرات ليبيا الغنية بمصادر الطاقة، وذات الموقع الاستراتيجي في حوض البحر المتوسط، فوقع اتفاقيتَين، إحداهما أمنية، أرسل في ضوئها قوات عسكرية، ومرتزقة سوريين، وسلاحًا إلى حكومة الوفاق. والثانية في المجال البحري، رسم بناء عليها الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، رغم أن تركيا لا تمتلك سوى 12 ميلاً بحريًّا فقط، وفقًا لاتفاقية البحار لعام 1982 كحدود بحرية. ورغم وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي؛ ما يجعل الاتفاقية مخالفة لقانون البحار الدولي، ومنتهكة لسيادة اليونان، غير أن “أردوغان” الطامع في ثروات ليبيا من النفط والغاز؛ ليعوض الفقر الذي تعاني منه بلاده منهما، ويضطرها إلى استيراد 95 في المئة من احتياجاتها من الطاقة سنويًّا، اختار التحايل على القوانين الدولية، وتجاهل التوازنات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا المرتبطة بمصالح مصر؛ فضاعف دعمه العسكري لحكومة الوفاق؛ ليستخدمها رأس حربة في الاقتراب من مصر، وتهديد أمنها القومي؛ ما دفع القاهرة إلى حشد قوات عسكرية ضخمة على حدودها مع ليبيا استعدادًا للتدخل فيها، إذا تجاوزت قوات حكومة الوفاق خط سرت الجفرة عقب انتزاعها مناطق عدة في غرب ليبيا من الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، وتقدمها لمحاصرة مدينة سرت تمهيدًا لاجتياحها، والاستيلاء على منطقة الهلال النفطي في شرق ليبيا، التي تضم أكبر مخزون نفطي للبلاد، ولكن الموقف الصارم الذي أبدته مصر أحبط أطماعه، وإن ظلت نذر المواجهة العسكرية بين الدولتين قائمة، وخاضعة لنزوع “أردوغان” العدواني لدفع الأمور إلى حافة الهاوية.
احتلال جائر
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية استمر نظام “أردوغان” في قضم الأراضي السورية في شمال البلاد، من خلال شن ثلاث عمليات عسكرية واسعة النطاق، بدأت بعملية “درع الفرات” في أغسطس 2016، ثم أتبعها في يناير 2018 بعميلة “غصن الزيتون”، التي لم يكتفِ بها؛ فشن في أكتوبر 2019 عملية “نبع السلام”، التي بسط خلالها سيطرة تركيا على مساحة 8835 كيلومترًا مربعًا من التراب السوري، تمتد لمسافة 480 كيلومترًا على طول الجانب السوري من الحدود بين البلدين، بعمق 32 كيلومترًا داخل الأراضي السورية. ومن الأيام الأولى لاحتلال المنطقة، التي تضم أكثر من ألف بلدة، شرع النظام التركي في تغيير هويتها الوطنية تمامًا، وأعطى الأولوية لتغيير التركيبة السكانية للمنطقة؛ فاستقدم إليها الآلاف من اللاجئين السوريين في تركيا؛ ليحلوا محل مئات الآلاف من الأكراد، الذين شردهم عن ديارهم وممتلكاتهم، كما غيّر مناهج التعليم، وفرض تدريس اللغة التركية، ورفع العلم التركي على كل المؤسسات العامة، وربطها إداريًّا بنظيرتها في تركيا، في احتلال جائر، غيّر كل معالم المنطقة حتى أسماء الشوارع.
وترجع أسباب إشعال النظام التركي الأزمات الخارجية إلى فشله في إدارة اقتصاد البلاد؛ فبحسب أحمد داود أوغلو فإن “تركيا تعيش أزمة اقتصادية تاريخية، لا يستطيع أحد أن ينكرها”. وقد بدأت تلك الأزمة مع انهيار العملة إلى مستويات متدنية في عام 2018، وما رافقها من ارتفاع للتضخم، ثم استمرت خلال عام 2019 إلى أن ازداد تفاقمها في عام 2020 مع انتشار فيروس كورونا؛ ما أدى إلى انهيار قيمة العملة التركية، التي تراجعت الأربعاء الماضي أمام الدولار إلى 7.96 ليرة للمرة الأولى في تاريخها. كما أدت الأزمة الاقتصادية إلى تهاوي الاستثمارات الخارجية والتمويل الأجنبي، والعجز عن سداد الديون المستحقة على الحكومة والشركات التركية، وهو الوضع الذي دفع مؤسسة “موديز” في سبتمبر الماضي إلى تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا إلى مستوى “B2″، وإبقاء النظرة المستقبلية للبلاد سلبية، بما يعادل التصنيف الذي بلغته رواندا وجامايكا.
استمرار التدهور
وأمام عجزه عن إنهاء أزمة الاقتصاد التركي، أو وقف تدهورها إلى مستويات أعمق، لم يجد النظام التركي وسيلة لصرف تركيز الأتراك على معاناتهم منها، سوى تحويل اهتمامهم إلى الأزمات الخارجية، التي يعمد خلالها إلى استغلال مشاعرهم الدينية والقومية. فوفقًا للباحث الزائر بمركز كارنيجي في أوروبا مارك بيريني، فإن “خلاف تركيا واليونان حول الحدود البحرية خلاف تاريخي، لكن استغلال نظام أردوغان له، وتحويله إلى أزمة، يوحد بشكل أو بآخر ألوان الطيف السياسي بأكمله في تركيا وراء النظام. وبناء على هذا النهج ينساق نظام أردوغان لاستغلال النزعة التركية في ثماني دول، بينها أذربيجان التي يبرر التدخل في شؤونها، وإغوائها بخيار الحرب ضد أرمينيا، بزعم الدفاع عن شعبها ذي الأصول التركية.
ولا تقتصر دوافع “أردوغان” على إثارة الأزمات على الهروب من مشاكله الداخلية المزمنة، وإنما يؤججها أيضًا طموحة الشخصي في إحياء الخلافة العثمانية؛ “فأردوغان يحاول بكل الطرق الممكنة استعادة أمجاد الخلافة العثمانية على حساب شعبه، وشعوب البلدان الأخرى، التي تشهد حروبًا مثل ليبيا وسوريا وأذربيجان وأرمينيا”، بحسب ما ذكر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي. ومع عدم ظهور أي مؤشرات تنبئ باحتمالية تغير نهج “أردوغان”، الذي “يعطي الأولوية للقوة على الدبلوماسية”، كما بيّن أحمد داود أوغلو، الذي بات يحيد عن السياسية التي كانت تعتمدها بلاده في تصفير المشاكل مع الخارج، فإن المنتظر أن يواجه العالم مزيدًا من الأزمات التي تؤثر في أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل أهمية حيوية لمصالحه، ولاسيما أن “أردوغان” تسبب في إثارة خمس أزمات عابرة للحدود خلال السنتين الماضيتين، ويعمل بكل جهده على استمرارها.
ولعل “أردوغان” حاليًا هو أكثر الأطراف اعتقادًا بفشل مشروعه، واقتراب نهايته، بعد سنوات من تراكم نتائج سياساته الخاطئة التي أدت إلى انهيار شعبيته، وتراجعها في أوساط كتلته الصلبة؛ “فأردوغان سيرحل عن الحكم لا محالة، وبات يدرك ذلك” كما قال زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، عازيًا ذلك إلى “تصاعد قمع المعارضين، وزيادة معدلات البطالة، وتلاشى مفهوم الدولة الاجتماعية تمامًا”. ولا تنبع الأسباب المؤدية إلى الرحيل المتوقع لـ”أردوغان” فحسب من إخفاقاته الداخلية، واتساع سخط الأتراك ضد سياسته، ورغبتهم في الخلاص من نظامه الرئاسي الاستبدادي الذي يحتكر بموجبه كل السلطات، لكنها ترتبط أيضًا بعزلته الدولية الآخذة في التعمق؛ “فأردوغان أدخل تركيا في عزلة لم تشهدها من قبل على الساحة الدولية” وفقًا لما خلصت إليه وكالة بلومبرج الأمريكية في يوليو الماضي. ومحصلة لكل هذه الأسباب لا يرجح أن يطيل إشعال “أردوغان” للأزمات الخارجية من بقائه في الحكم، ولاسيما أنها تفرز نتائج متعاكسة مع طموحاته؛ فإثارته لأزمة غاز شرق المتوسط أدت إلى تشكيل تحالف إقليمي ضد تركيا، يضم مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، وبقية الأزمات الأخرى ضاعفت من احتقان الأتراك ضده.
window.fbAsyncInit = function() { FB.init({ appId : 636292179804270, autoLogAppEvents : true, xfbml : true, version : 'v2.10' }); FB.AppEvents.logPageView(); };
(function(d, s, id){ var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0]; if (d.getElementById(id)) {return;} js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = "https://connect.facebook.net/en_US/sdk.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); }(document, 'script', 'facebook-jssdk'));
[ad_2]
Source link