[ad_1]
في حديثه لـ«عكاظ» يفتح السنعوسي النار على المتسببين في «الرقابة اللاحقة» التي تفضي إلى عقوبة السجن، مؤكداً أنه لا يلوم الرقيب المتطوع إذا كان النائب الذي منحه صوته يسن قانوناً ليسجنه.
ويتساءل السنعوسي: «كيف لا تتراجع الحريات والوعي الجمعي في ردة تشبه السقوط الحر؟ لقد تطورنا بشكل فارق لكننا لم نتزحزح خطوة في سلوكنا وأنماط تفكيرنا».
في هذا الحوار آراء صاخبة عن مخبري الحقل الثقافي، وعن النقاد المدهشين بتفكيكهم النصوص وعن اختلافات التلقي عند القراء وهموم ثقافية أخرى.
• مشروعك القادم سيكون فانتازيّاً عن «كويت ما قبل النفط»، لكن إذا كانت الرواية هماً سياسياً فإن بداية التحولات حدثت ما بعد النفط، هل روايتك إذن تناقش التحولات الاجتماعية؟ أم ستتابع تشكّل الهوية الذي ركزت عليه سابقاً؟
•• قد يكون المقبل، فقد سبق وتوقفت عن مواصلة المشروع أكثر من مرة منذ 2015. في هذا العمل أخوض مرة أخرى في مسألة أزمة الهوية، غير أن هذه المرة أكتبها بشكل أكثر تعقيداً، ربما من تجاربي السابقة. أزمات الهوية في هذا العمل تتجلى في أكثر من شخصية وفي أكثر من سياق؛ عرقي ديني وجنسي. أما الخط السياسي في الرواية فهو الخط الرئيسي الذي تحاذيه بقية خطوط الأحداث الثانوية الموازية. ربما التحولات السياسية الكبرى جاءت بُعيد اكتشاف النفط، وهذا لا ينفي أن الكويت ـ زمن الإمارة وصراع بسط النفوذ الدولي في الشرق الأوسط ـ قد مرت بتحولات سياسية عدة قبل قيام الدولة، تشبه إلى حدٍّ بعيد ما نمر به في هذا الزمن.
• لكن هناك روائيين كويتيين استلهموا الماضي أيضاً، ما الذي نستفيده إذا لم تكن هناك خطوط تتعارض مع الحاضر؟ أو نقاط ضوء يمكن أن توضح لنا سبباً للتركيز على هذه المرحلة بوجود كتب تاريخ وتراث؟
•• عائدي الأول من قراءة الرواية هو المتعة، ولا أستطيع أن أقرأ رواية وأنا أقصد شيئاً غير المتعة في الدرجة الأولى، وتكون المتعة مضاعفة إذا أضافت لي الرواية فكرة أو سؤالاً أو أداة كتابية أو معلومة في خزيني المعرفي، هذا اشتراطي الأول لقراءة الرواية، أما في كتابتها فالأمر يختلف، نعم أنا أكتب عملاً تدور أحداثه في الماضي، غير أن هذا الماضي كان وما زال سبباً في ما نعيشه في الحاضر، لم يرحل الماضي بعد، إن أمكنني القول، فنحن فعلياً لا نزال نحيا فيه ونحييه، وأزماتنا الآنية كانت بذوراً غرسها الأولون، وما زلنا نحن الأحفاد نقلب تربتها ونسقيها ونقطف ثمارها. ودعني أصدقك وأقول إني أثناء البحث وكتابة هذا المشروع كنت أصاب بالدهشة لكثرة المفارقات والتماثل بين فرد اليوم والأمس، في السياسة والدين والتفكير والسلوك والأعراف. والتغييرات الكبيرة في الغالب ألقت بظلالها على الشكل، وتطورنا على صعيده بشكل فارق، بيدَ أننا في أنماط تفكيرنا وسلوكنا لم نتزحزح خطوة، إنما كرسنا مشكلاتنا وعقدنا القديمة حتى فاقت ما كانت عليه؛ صار بيت الطين أو بيت الشَّعر بيتاً من الحديد والأسمنت ولم يتغير ساكنوه. هناك أمر آخر يدفع بعض الروائيين إلى كتابة الماضي، وهو تلافي مضايقات الرقيب الحكومي والرقباء المتطوعين من العامة، فيجيء الماضي في الرواية مجرد ثوب يتنكر فيه الحاضر بهيئة قديمة.
• إلامَ تعزو الطفرة الملحوظة للرواية الكويتية والخليجية خلال السنوات الأخيرة؟
•• ربما الجوائز لها دور كبير، غير أن أمثلة كثيرة على نتاج الجوائز تثبت أن الجائزة تروج اسم العمل الفائز وكاتبه ولا تضمن له المقروئية. لنأخذ الإجابة على وجه آخر، القارئ في الدول التي اتخذت صبغة مركزية على مدار عقود وعاشت ما يشبه الاكتفاء الذاتي، وبسبب الانفتاح على فضاء التواصل الإلكتروني، ربما صار لديه نوع من الفضول تجاه تلك العوالم التي لا يعرفها رغم قربها منه، خصوصاً مع فكرة القوائم الطويلة والقصيرة في أغلب الجوائز العربية التي ساهمت بمد الجسور بين دول كانت تعيش شبه قطيعة ثقافية، حتى بات مألوفاً اليوم أن تجد روايات خليجية في دول المغرب، والعكس أيضاً، وكلاهما ـ وفق الدارج عربياً ـ من دول الأطراف. أضف إلى هذا قصر عمر الرواية في الخليج نسبياً، وأن أرضها ما زالت بكراً وخصبة بالأحداث والقصص والمواضيع التي لم تكتب، ربما هذه الأسباب ساهمت في هذه الطفرة الروائية.
• أنت أكثر روائي خليجي ـ وربما عربي ـ وجدت قبولاً في دول عربية يصعب اختراقها ثقافياً، ما الشروط الواجب توفرها في الكاتب لينال محبة وثقة الآخرين والتربع في قلوبهم؟
•• لا إجابة لدي لأني وبكل أمانة لا أدري. الشيء الوحيد الذي أعرفه أني أكتب مثلما أفكر ومثلما أتعامل مع الآخرين في حياتي اليومية ومثلما أجيب عن أسئلتك في هذا الحوار؛ أكتب قلقي وأسئلتي وسذاجتي وأحلامي وما يشبه الأجوبة دونما تنظير، أكتب لأسد أفواه الأسئلة بلفظها.
• تعتقد بأن الحريات داخل الكويت في تراجع مخيف.. لماذا؟
•• لأننا لا نستحقها، ولأنها وفق الفهم الجمعي في حد ذاتها مخيفة، وأنت حتى هذه اللحظة ليس لديك مفهوم واضح للحرية غير أنها شيء يجلب المشكلات، وأنها مفتاح يخولك لدخول حياة الآخرين. أكثر الناس يخافها ويزدريها ويلصق بها التهم لأنه يجهلها، ولأن ليس لديه نموذج خالص للإنسان الحر الذي يطمئن إليه. الوعي من أهم اشتراطات الحرية، فكيف لا تتراجع الحريات والوعي الجمعي في مجمله في ردة تشبه السقوط الحر الذي لا تملك حياله إلا التقاط نفسك الأخير. هل تتخيل أن تعمل مجموعة من الناشطين وعلى مدار سنوات على تمرير قانون جديد لآلية الرقابة، فتقنع عدداً لا بأس به من العامة، وأعضاء البرلمان ويتبناه رئيس مجلس الأمة ثم يصوّت أكثر الأعضاء «موافقين» على القانون مع إضافة عقوبة السجن للكاتب؟! من يلوم الرقيب المتطوع من العامة إذا كان النائب الذي منحته صوتي في الانتخابات يسن لي قانوناً يسجنني في حال ما يظنه مخالفة، ولا يكتفي بالعقوبة المادية؟ كيف لا تتراجع الحريات وليس هناك من يدافع عنها وفق إيمان مطلق بضرورتها؟ أنت في درجة من غياب الوعي حتى أنك تواجه كتّاباً ونقاداً وناشرين وأصحاب مكتبات محليين يهاجمونك وأنت تشكو الرقابة التي تضايقهم! ليس إيماناً بدور الرقيب إنما خصومة لك وللمجموعة التي تعمل معها ضد قانون المطبوعات، فلا تسلم من اتهاماتهم بأنك تتكسب بتصديك للرقابة واللجوء إلى القضاء، ولا من اتهامهم صراحة بأنك تتسلق أكتاف «السابقين» ممن حاربوا من أجل الحريات، وأنت لا تريد من كل وجع الرأس هذا إلا حقك بنشر كتابك في المكان الذي تسميه وطنك. كان هذا نصف الإجابة، نصفها الأطول متاح للقارئ الكريم في صحيفة قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقره مجلس الأمة قبل سنوات.
• لكن الرقابة الآن لاحقة بعدما كانت سابقة، وكنت من أبرز المطالبين بإلغائها، ألا تظن أن «اللاحقة» أخطر؟
•• أخطر مع عقوبة السجن التي لم تكن في القانون الذي اقترحته المجموعة، إنما أصرَّ على إدراج العقوبة النواب الذين أقسموا أن يذودوا عن حريات الشعب، فأحالوني كاتباً يمشط السطور ويفليها بحثاً عن كلمة تسجنه، ولا يمسحها. نعم، القانون الأخير لا يخلو من خطورة وليس هو الشكل النهائي الذي يوازي الطموح، ويجب أن يتعامل معه الكاتب بحرص، غير أن القانون رغم هذه الخطورة هو خطوة أولى نحو مزيد من التعديل، حتى نصل إلى شكل نهائي لقانون يضمن حق الكاتب في التعبير عن رأيه دونما مضايقات.
• ماذا عن الرقابة المجتمعية، ألا تحد من كسر التابوهات وبالتالي تُحيّد المبدع عن متابعة قضايا مجتمعه وتزرع الألغام بطريقه؟
•• أستطيع أن أجيبك عن نفسي وفق تجربتي الصغيرة، تجاوزت فيها قيود الرقيب المجتمعي منذ سنوات، وما عاد هذا النوع من الرقابة يشغلني لأنني آمنت بضرورة الخسارات في شكلها الذي عرفته، وبعض الخسارات في جوهرها مكسب. ما السلطة التي يملكها عليك الرقيب المجتمعي إذا كنت مؤمناً بمشروعك واحترمت قلمك وقارئك وتعاملت بحرص مع ما تكتب؟ يستطيع التأليب عليك، ومضايقتك في المحاكم، والضغط لمنعك من حضور الفعاليات وحرمانك من الجوائز المحلية ومنعك من النشر في بلدك، وماذا بعد؟ هذه أمور لا يسلم منها الكاتب حتى من منافسيه من مخبري الحقل الثقافي في بلده. ربما ينغص عليك الرقيب المجتمعي العيش، لكنه في النهاية لا يستطيع أن يمنعك من الكتابة إذا كانت هي قدرك. أتعامل مع كل إصدار جديد كأنه منخل، يصفي القراء وينتخب فئة تعبر معي إلى مرحلة جديدة، فأخسر بعد كل إصدار قارئاً أنا مستعد لخسارته كي لا يمارس عليّ ضغوطاً منشؤها الذائقة والمبادئ الشخصية. كتبت رواية رأى فيها ابن بيئتي القريبة إدانة ذاتية وتمرداً على العرف و«نشر غسيل»، فخسرته. وكتبت أخرى فخسرت متطرفاً سنياً، لأني أحابي الشيعي الذي خسرته لأني حابيت السني! وكتبت أخرى رأى فيها ابن بيئتي مغازلة وهرولة وراء قارئ القبيلة، ورأى فيها قارئ القبيلة تطفلاً من ابن الحاضرة وتعريضاً بناموسه وعرضه، فخسرت القارئين. وكتبت أخرى لم تعجب قارئاً من «الكويتيين البدون» لأن الشخصية في الرواية لا تشبهه، فخسرته أيضاً. خسرتهم جميعا فتحررت من القيود، وكسبت نفسي.. الرقابة المجتمعية لا توقفك عن الكتابة صدقني، أنت من يفعل، أما قيود القارئ الرقيب فأغلبها مرهون بمبادئه وذائقته الشخصية ومسطرة محرماته، كلها قيود مجانية لا تخضع لمنطق ولا مسطرة واضحة.
الثقافة الحكومية
• ما زالت «الثقافة» مفردة غائبة عن الطرح النيابي والحكومي في الكويت، أليست الثقافة مُنطلقاً لكل فعل سياسي حقيقي؟ لماذا تغيب إذن عن برنامج السلطتين؟ لماذا يلتفتون إليها رقابياً فقط؟
•• بسبب غياب الرؤية الثقافية وعدم الإيمان بدورها. لديك في مجلسي الوزراء والأمة 65 عضواً يشرّعون وينفذون القوانين، أجيب عن سؤالك لو جئت بتكتل لديه مفهوم مقبول لـ«الثقافة»، أنا لا أستخف بأحد، ولا أحب أن أفعل، ولكن هذا تشخيص بسيط لأزمة الثقافة اليوم، التي صنعت وجودك في الأمس بسبب قواك «الثقافية» الناعمة، قبل أن تتقوقع على ذاتك وتدير ظهرك للثقافات الأخرى المحيطة لتكرس عزلتك ولا تنتج خلالها شيئاً؛ حس المسؤولية معدوم، والرؤية الثقافية غائبة لأنها لا تدغدغ مشاعر العامة فتكسب أصوات الناخبين، ولا تسجل أسماء داعميها في سجلات المواقف البطولية، لأنك في الأساس تعيش في مجتمع يعاني نكبة تعليمية تفرخ الجاهلين في لغتهم، ولا أحد يحرك ساكناً، فأي حس ثقافي نرجوه من المشرع والثقافة في نظره نقيصة. لن أضرب لك أمثلة عامة فضفاضة، بل خذ على سبيل المثال تجربتين شخصيتين لي في هذا الشأن؛ حينما وجّه النائب السابق راكان النصف سؤالاً برلمانياً لوزير الإعلام عن أسباب منع رواية «فئران أمي حصة»، كان الأمر بمنزلة سابقة في البرلمان الكويتي انتبه لها المهتمون في الشأن الثقافي والأدبي، لكن النائب الذي ساءل الوزير عن رواية صار مادة للتندر من النواب والناخبين لأنه انتصر للكتابة. وخذ مثالاً آخر للنائب السابق خالد الشطي الذي سلم الوزارة اقتراحاً مكتوباً لإنتاج عمل درامي عن الرواية، فعاب الكثير على النائب اهتمامه بتوافه الأمور! بل تعدى الأمر كل هذه السخافات ليضمّن أحد النواب سؤالاً تهكمياً في استجوابه لوزير التربية والتعليم الذي أصدر رواية السنة الماضية!
لغة السرد
• كيف يختار المبدع لغته السردية؟ في «فئران أمي حصة» جاءت لغتك مباشرة على عكس بقية أعمالك.. ما السبب؟
•• لأن بطل الرواية يكتب روايته الأولى عن ذاكرته وهواجسه ومشاعره نحو مفهوم كرتوني للوطن، ولأنه تلميذ نجيب في مدارس الأغنية الوطنية العمياء، ولأن تحت الخطاب المباشر للراوي الكويتي «الوطني» بعداً يفضح سذاجة مفهوم الوطنية لدى أبناء جيلي الذي رهنها بألوان العلم وبضع أغنيات. ما كان لـ«فئران أمي حصة» أن تُكتب بغير هذه اللغة التي اختارتها الرواية، مثل أي رواية أخرى تختار لغتها وفقا لخلفية الراوي الثقافية؛ عرزال بن أزرق في «حمام الدار» روائي خمسيني مخضرم منحني محاولة تجريبية في اللغة والشكل، وعيسى الطاروف في «ساق البامبو» شاب عشريني متوسط التعليم يكتب قصته بالفلبينية فيترجمها صديقه الفلبيني إلى العربية فجاءت اللغة بسيطة تناسب كاتبها، وهكذا.
• في مجتمع يريد أن تكون هويّته عمودية غير متعددة، وأن يكون تاريخه محدداً بمكان واحد، أتعتقد بأن هذا المجتمع ـ مستقبلاًـ سيكون مادة غنية للكتابة؟ أليس تعدد الهويات حالة غنى ثقافي واجتماعي؟
•• إرادة المجتمع بتعزيز هوية جامعة واضحة المعالم لن تتحقق في القريب لأنها غير موجودة من الأساس، في دول يتحصن فيها الفرد بثقله الاجتماعي، الطائفي أو القبلي، لأن القانون غير فاعل ويأتي في درجة ثانية. ولا شك في أن تعدد الهويات في أي مجتمع يمنح عمقاً وثراءً ثقافياً، ولا شك أيضاً ـ وهذه مفارقةـ في أن المجتمع المنغلق على ذاته والمتوجس دائماً من الهويات الأخرى هو أيضاً مجتمع يمنح الكاتب مادة غنية للكتابة.
الفن والسرد
• ما زلت تشكل ثنائياً ناجحاً مع التشكيلية الكويتية مشاعل فيصل، وكأنها تقرأ أفكارك الخفية، هل يكمل التشكيل ما لا تقوله الرواية؟
•• مشاعل الفيصل قاصة في ثوب فنانة تشكيلية، تجمّد المشاهد وتكتبها بالريشة والألوان، وفي كل عمل من أعمالها التشكيلية أقرأ قصصاً وأتعرف إلى نفسيات شخوصها من أسلوبها المدموغ بالتفاصيل؛ لا أدعي أني أملك فهماً لكل ما ترسمه مشاعل وهذا ما يجذبني إلى عوالمها، غير أني أوجد لكل لوحة من لوحاتها فهماً خاصاً يمنحني معنى فريداً يخصني وحدي، تماماً مثلما تفعل هي مع نصوصي. وقد جمعتنا تجربة مغايرة في «حمام الدار»، وتضمنت الرواية 12 لوحة لمشاهد مكملة للنص مفتوحة على كل التأويلات. أصر على التعاون مع مشاعل الفيصل لأنها لا تنساق لما يقوله النص دائماً، إنما تعيد تشكيل فهمها الخاص لما سكت عنه الراوي، فتتصرف وفق رؤيتها فتضرب كل خيالاتك للوحة الغلاف عرض الحائط، وتصدمك مثلا بغلاف «ناقة صالحة» دونما رسم للناقة التي لم تخلُ منها صفحة في العمل، لماذا؟ لأن مشاعل لم ترَ الناقة وآمنت أن صالحة هي «الخلوج»، وأنها القاتل والقتيل.
• في «ناقة صالحة» تباينت آراء المتلقين، كيف توفّق بين النقد الأكاديمي والنقد الانطباعي للقراء؟
•• أتلقى الآراء الانطباعية بشكل يومي، بين إعجاب أو هجوم من القارئ، وأستمتع كثيراً بمتابعة تباين التلقي لدى القراء على اختلاف مشاربهم، غير أن النقد الأكاديمي الجاد، على ندرته، هو الأمتع والأكثر فائدة. إذا ما عمل الناقد وفق اشتراطات النص الذي أمامه، مخلصاً لمنهجه وأدواته، متحرراً من النوايا المسبقة أو رغبته في منح صكوك الإبداع أو مصادرتها من الكاتب. أن تقرأ نقداً يعرفك إلى النص الذي كتبته من منظور مختلف، فتفهم أنت مواضع الضعف والقوة في عملك دونما توجيه، ولا تدري طيلة قراءتك للنقد إن كان الناقد معجباً بالعمل أم لا، لأن هذا ليس هاجسه ولا موضوعه، أن يقوم الناقد بتشريح النص ويسبب اختيارات الكاتب واستخدامه أدواته، عوضاً عن إطلاق الأحكام بسبب عجزه عن الفهم فيصدر مقالاته بـ«كان ينبغي على الكاتب أن». هناك أسماء مخلصة متجردة لديها مشروع جاد ورصين، خذ على سبيل المثال نماذج من النقاد في الخليج أتعلم من دراساتها النقدية؛ الدكتور نادر كاظم من البحرين، والدكتورة منى حبراس السليمية من عُمان وحسين المطوع وتسنيم الحبيب من الكويت، وغيرهم قليل ممن قرأت، يدهشونك بتفكيكهم النصوص بموضوعية واشتغال نقدي بصرف النظر عن اسم الكاتب أو رواج الرواية، فتقرأ دراسة نقدية عن عملك وأنت لا تدري هل أحب الناقد العمل أم لا؟ الأكيد أن الناقد أحبَّ عمله هو واشتغاله على تفكيك على النص، فتخرج قراءته النقدية غنية بالأفكار التي تتفوق على مقاصد الكاتب، كأن يقف عند تحويل الضمير المتكلم، في رواية ما، إلى الضمير المخاطب مثلاً، فيشتغل على إيجاد أسباب تفعيل الكاتب لهذه الأداة في موضع معين من العمل، ويكتب دراسة كاملة ويدرج فيها المسوغات التي دفعت الراوي لتغيير ضمير المتكلم فجأة وعلى مدار 100 صفحة، على حين يكتفي ناقد آخر كسول بكتابة سطر واحد: «أخفق الروائي بتغيير الضمير المتكلم إلى الضمير المخاطب بلا سبب!» والحقيقة أن هذا الناقد هو الذي أخفق في إيجاد سبب لكل أداة يقوم الكاتب بتفعيلها في نصه. مهمة النقد عظيمة تكمن في تقويم أدوات الكاتب وإضاءة الزوايا المظلمة في نصوصه، والوصول إلى فهم أعمق للنَّص، لكن المشكلة أننا لا نفرق بين الآراء الانطباعية الخاضعة للذائقة وبين النقد وفق رؤية منهجية واضحة ومتجردة.
دلالات النص
• بالمناسبة، ألا تعتقد بأن كثيراً من قراء «ناقة صالحة» لم يستوعبوا حتى الآن أن سطح الرواية لا يشي بعمقها؟ وأن «فالح» هو المأزق ومكمن السر في الرواية؟
•• فالح واحد من اللاعبين المستترين في النص، وليس الوحيد، وهذا هو السر في متعة تلقي الآراء بين معجب وكاره للعمل. أن يجيئك كل قارئ بفهم مغاير، بل ويتفوق على الكاتب في تأويل النص في كثير من الأحيان، أو أن ينصرف عن الدلالات المزروعة في ثنايا النَّص فيقرأ سطح قصة حب لطيفة. كان من الممكن أن أكتب نصاً يصلح لقراءة أفقية واحدة، غير أني بعد «حمام الدار» أحببت لعبة القص العمودي على أكثر من مستوى، ما يقوله النَّص، وما يلمح إليه، وما لم يقله في الأساس، وما تقوله الرسوم، وما يشاركني القارئ في كتابته فهماً، وما يحاذي النص من قصائد مفتوحة على التأويل، أعتبرها إمداداً خارجيّاً يسد فراغات النَّص القصدية، كما حدث في «ناقة صالحة»، حينما أخفق في استنطاق «دخيل بن أسمر» ألجأ إلى «دخيل الخليفة» يقول ما أعجز عن قوله، فأترك لدخيل كتابة دخيل، فيجيئك القارئ محملاً بالأسئلة والنتائج المتباينة بين «الدخيلين» وأيهما كتب الآخر. الأساس في أي عمل ينشد مستويات عدة في كتابته ألا يتفق عليه قارئان، وإذا كنت تنشد عمقاً في روايتك، فيستوعب كل القراء ما بين السطور، فلا عمق فيها لأنك صنعت من القارئ مجرد متلق سلبي غير فاعل.
• في «حمام الدار» كانت اللغة عالية في نص تجريبي محيّر وصعب يعتمد على الإضمار، ومع هذا الجمال كان ثمة ملل لا يفضي إلى شيء في الجزء الأول (العهد القديم) الذي يتكشّف جماله لاحقاً باكتمال الرواية، هل شعرت به ككاتب؟
•• وشتمت عرزال بن أزرق، وشمتني بطبيعة الحال! وأنا أقدم على تجربة ليست مضمونة العواقب، بيدَ أني أحببتها على صعوبتها متخففاً من جنون التجربة بعنوان الرواية الفرعي «أحجية بن أزرق» وقصرها نسبياً مع ما كتبته سابقاً لأن كتابتها بهذا الشكل لا تحتمل التطويل، وسبب الملل الذي تسرب إلى القارئ غالباً هو الغموض، لأنك في الجزء الأول غير متيقن بعد من هو السقف ومن هي بصيرة ومن هو أزرق، بل إن عرزال نفسه لا يدري سبباً لوجوده، وهي دلالات لا يمكنني كشفها في «العهد القديم» من الرواية، وأحببت أن أقدم لك نصاً يبدو أنه بلا معنى مثل حياة البطل، فتصير لهذا الجزء معانٍ عدة إذا ما كابدت في مواصلة قراءة الجزء الأول، متسلحاً بفكرك ووعيك أنك الجزء الفاعل في كتابة النَّص. ما زلت أتصور أن «القصدية» حتى بما يبدو أنه قصور في العمل إنما هي شرط من اشتراطات النَّص، متى ما كان الكاتب مدركاً ولديه سبب لما يبدو أنه نقيصة، خذ على سبيل المثال مع فارق التشبيه، رواية «البطء» لكونديرا، قصتا حب إحداهما ثقيلة تُسرد ببطء على عكس الأخرى التي تدفعك للركض قراءة، إذن البطء هنا ضرورة مكتوبة بقرار من الكاتب. أؤمن، وربما أكون مخطئاً، أن حتى بعض الملل مبرر، إذا جاء قصدياً من الكاتب في موضع معين، وفق الإطار الموضوع للنص والشخصية المأزومة بوجودها العبثي، حتى يتسرب الشعور باللاجدوى إلى القارئ نفسه قبل أن يمتلك مفاتيح الفكرة. العمل نفسه يبرر هذا الملل غير المفهوم بالنسبة للروائي الذي يصف شخصيته في المقدمة: «شخصية كهل مضطرب مريب ممل منصرف عن كل شيء إلا بضعة اهتمامات تافهة تلفها الغرابة».
معضلة التلقي
• نعم، من حق المبدع المغامرة والمغايرة، وهو ما حدث في «حمام الدار» التي تعد قفزة خليجية عربية في التجريب والرمزية، لكن هنا يقع الروائي في معضلة تتمثل في التضحية ببعض قرائه، هل يحدث هكذا شعور لحظة الكتابة؟
•• وبوعي تام، قلّبتُ الفكرة على وجوهها قبل الكتابة وأدركت: «ستخسر شريحة كبيرة من قرائك». لا أريد أن أكتب رواية تعجب القارئ وحسب، فكرة كهذه تجعلني أفرّخ أعمالاً على غرار «ساق البامبو»، وليست صعبة كتابة جزء ثان وثالث أتتبع فيهما سيرة عيسى الطاروف «هوزيه ميندوزا» بعد عودته إلى الفلبين، قبولاً لرغبة قارئ أحبني في مكان واحد، فقررت عوضاً عن مكوثي في المنطقة ذاتها أن أمسك بيد قارئي وأمضي معه إلى مناطق جديدة على كلينا، وله أن يفلت يدي ويمضي بعيداً أو أن يتنقل معي من منطقة إلى أخرى. لا أهمية لنجاح أو إخفاق دونما معايير واضحة، إنما المهم أنك اجترحت فعل التجريب على مستوى مغاير بالنسبة لتجربتك، قد لا يصيب العمل نجاحاً، لكن الأكيد أنك نجحت بأن تكون نفسك دونما انسياق وراء ذائقة القارئ.
[ad_2]
Source link