[ad_1]
الفقه (فهم) خاص يتجاوز الفهوم العادية، وقدرة عقلية على الاستنباط تفوق عقلية التقليد والمحاكاة، ومِراس قائم على مراعاة كُليّات الشريعة عند تطبيق الجُزئيات، وفق روح النصوص القطعية التي جاءت بالتيسير ورفع الحرج وحفظ المصالح والمقاصد، إذ ليس الفقه محصوراً في حلال وحرام. فالمباح أوسع الأحكام التكليفية، والأصل في الأشياء الإباحة، وهناك مباح بذاته، ومباح لغيره، مثل المباح للضرورة، والمباح بالعُرف، والمباح بالسكوت عنه.
الرِّبا المنصوص عليه لا يتحقق بصورة العقد أو التصور الهيكلي للتقايض بل بالعزم، والقصدية، حتى إن كانت الصورة الشكلية ظاهرها القبول، كصورة بيع صحيح يُعقد لتمرير تبادل مال بمال مع زيادة على المشتري ومثالها شراء سيارة بضعف قيمتها بثمن مؤجل واسترداد البائع لها برأس مالها «وإنما الأعمال بالنيات».
ورد في بعض العصور ما سمي بفقه النوازل وهي معالجات فقهية لمستجدات عصر ما، وأحسب أن الفقه الإسلامي بحاجة إلى ثورة على تقليديته ليتجاوز أبواب الرق وأحكام أمهات الأولاد، إلى فقه رقمي يستوعب منجز العصر ويؤسس مدونة مواكبة دون حاجة لاستصحاب حال حكم قضية سابقة وتطبيقه على لاحقة بذريعة التشابه. فالعلة قد لا تكون مبرراً كافياً لاصدار الحكم، والرأي الاجتهادي ليس حكم الله.
التركة الفقهية ثقيلة، واسترعاء نظر الفقهاء قبل ألف عام مدعاة لأزمات، نظراً لاختلاف الظروف وتبدل الأحوال، وتغير موازين القوى، ولعل فقهاء المذاهب لم يجنح بهم خيالهم إلى أزمنة أبعد من الزمن الذي عاشوا فيه. فلم يصدروا أحكاماً لفقه التعايش أو حقوق الإنسان، وحرية الاختيار، ولا فقه الأقليات في المجتمع المسلم، مما يتعذر معه في ظل معطيات عصر العِلم قياسه على غائب. فالغائب محكوم بزمن وظروف وأفهام خاصة به. ولكل عصر فقهه، والدساتير الوطنية بديل عملي وتطبيق للشورى بموجب قوله تعالى (وشاورهم في الأمر).
الفقه العربي كلاسيكي في متنه، ومن الخطأ أن يكون في وادٍ والمجتمع في واد آخر وبينهما عمر موازٍ لعمر سيدنا نوح عليه السلام. برغم أن الفقهاء يتماهون سريعاً مع عصور التحولات، ويعيشون ويعايشون التعصرن بدءاً من ملبسهم إلى مركبهم وتعاملاتهم ومقتنياتهم.
الفقه العِبادي لا مشاحة في ترجيح البعض للأحوط منه، والأخذ بالأشد، وإن غالى، كونه أمراً خاصاً بفاعله. أما فقه التعامل والعلاقات المجتمعية والإنسانية فمشكل بطرحه المتوارث. إذ لا يمكن أن نتصور حياة آمنة وصالحة للطاعة والعبادة في ظل صناعة خصوم واستعدائها.
تميز الفقه في العصر الأندلسي -على سبيل المثال- عن أصله التقليدي وكان نموذجاً عصرانياً، انفتح على معطيات فضاء زماني ومكاني وإنساني ولم يصطدم معه، ولم يهوّل من تداعيات التغيير والتطوير، أو يهوّن شأن المنجز، ما يؤكد متانة الفقه ومكانته وقابليته للتجديد، وربما تصور بعض المتعصبين للموروث الفقهي أن العالم سيظل على صورة واحدة خاضعة للتقاضي التقليدي، والفتوى الجامدة، ويقبل بتطبيق أحكام يعدونها صواباً وما عداها خطأ.
في الفقه مسائل افتراضية متعلقة بالطلاق، وكثرة ووفرة مسائل الطلاق جاءت على حساب أنواع من الفقه كان يجب الاعتداد بها، والإيمان بدور العِلم فيها، والتصالح مع الكشوفات والمخترعات، وأتساءل «هل يلزم اليوم التلاعن بين زوجين لنفي نسب الأولاد علماً بأن تحليل الحمض النووي يحسم المسألة في دقائق»؟ وهل تعلّق أجيال من المسلمين اليوم في بلدانهم أو المهجر حياتهم ومصالحهم على الحصول على فتوى أو قول فقيه؟ إلا إن كانت لهم نوازع عنف ونوايا إرهاب فذاك شأن آخر.
لم يعد عالمنا بحسب تقسيم الفقه؛ دار إسلام ودار حرب إلا في الذهنية الحادة، ولا فسطاطين إلا في أدبيات الحزبيين، ومن المغالطة تصوير العَالَم على أنه يسير للوراء، ما يفرض حاجة الفقه لمؤهلين لغربلته، وانتقاء أجوده، وبناء مصفوفات فقهية لا تقل أهمية عن القوانين بل تفوقها بحكم قابلية تأصيلها وحتى لا يتحنط فقه المسلمين ويتجاوزه العصر بالمنجزات التقنية والبيولوجية.
من الحكمة ربط الفقه بالأخلاق والقِيَم الإنسانية، ومما يروى عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بأن أحد ولاته أرسل إليه يشكو بأن كثرة الداخلين في الإسلام أدت إلى قلة أموال الجزية، ويقترح عليه إضافة جزية على حديثي العهد بإسلام، فرفض الخليفة العادل وأرسل إليه قائلاً؛ «إن الله ابتعثنا هداةً لا جباة».
حقاً إن الله بعث الرسل هُداة لا جُباة، ومن باب أولى أن نكون هداة لا غزاة ولا معتدين باسم فقه الجهاد.
كاتب سعودي
Al_ARobai@
[ad_2]
Source link