[ad_1]
وإذا بحيواناتِ كِتابِه، من النَّملِ إلى الفيلِ، أحوالُها معقودةٌ في أَعْناقِ الحديثِ، والحكايةِ، والمَثَلِ، والنَّادِرةِ، والبَيْتِ من الشِّعر؛ وتُخبِرُ بألوانِها، وأسمائِها، وأحجامِها، وشرابِها، وعاطفتِها، وطعامِها، ومباهجِها، وأحزانِها، ولُؤمِها، وإبائِها، وأسقامِها.
ولا تستغربوا هذه الموسوعيّةَ في كتاب (الحيوان)، فصاحبُه الجاحظُ، هو ذاك الذي قيل في شأنه، لأحد معاصريه من الشعراء، ويُكنّى بأبي العيناء: «ليت شعري، أيّ شيءٍ كان الجاحظ يُحْسِن؟ فقال: ليت شعري، أيّ شيءٍ كان الجاحظ لا يُحْسِنُ؟»! أما ياقوت الحموي، الذي كان بصيرًا بأهل الأدب، فقال في موسوعته (معجم الأدباء): «كانَ الجاحظُ مِنَ الذَّكَاءِ، وسُرعَةِ الخَاطِرِ، والحِفظِ، بحيث شَاعَ ذِكْرُهُ، وعَلَا قَدرُهُ، واستَغنَى عَن الوَصفِ».
حِكايةُ الجاحظ وحِكاياتي
لا أخفي عنكم، أحبتي القُرّاءَ، حقيقةَ أنّ رَغْبتي في عَرْضِ كتابٍ لَكُم من كُتُبِ تُراثنا الأدبيّ، على غرار كتاب الجاحظ، هذا، أو الاستئناس به لتَشْييد فكرةِ مقالٍ تنتظرونه منّي، إنما هي غالبًا ما تُنشِئُ لي، مع كلّ واحد من تلك الكُتب، حكايةَ قراءةٍ ربّما رَوَيْتُها لكم مرّةً، وربّما سَكَتُّ عنها مرّاتٍ، كما لو أنّي أستأثر بها لذاتي، ولكن: معاذ الله! كلُّ ما في الأمرِ أنّي أتخيّر بعضًا منها، وأحفظُه في مَلَفّاتي، عسى أن تُتاحَ لي فرصةُ نَشرِها جميعًا في كتابٍ، حول حكاياتي مع الكُتُبِ التي قرأتُها.
وكأني أسمع أحدَكم يسأل: وما مُناسبةُ الحَدِيثِ عن كتاب (الحيوان) للجاحظ؟
الحقيقة أن المناسبةَ مُناسبَتَان، وأُولَاهما عِلَّةٌ للثانية.
أمّا الأولى: فهي تسمية المملكة العربية السعودية، العامَ 2024، عامَ «الإبل»، وذلك في إطار الاحتفاء بالإبل، وتعزيز حضورها المحلي والدولي، والاعتراف بمكانتها، وقيمتها الثقافية، والمادية.
وفي هذا تقول العرب: «الصامت من المال: الذّهبُ والفِضَّةُ، والنَّاطِقُ من المَال: الإبلُ»، وهو احتفاءٌ نحنُ مدعُوُّون جميعًا إلى الإسهامِ فيه، ضِمن رؤيةٍ سَديدةٍ، تحرِصُ فيها بلادنا على تَثْمينِ كلّ عناصِرِ تُراثِنا واستثمارِه، رافِدًا من رَوَافِدِ مشاريعِنا الثقافيةِ الجديدةِ.
وكيف لقومٍ مِثْلنا أن ينسَوْا إبلَهم؟! تلك التي هي عِزٌّ لأهْلِها، والتي تَحْنُو عليهم حُنُوَّ الأمّهاتِ، «فإذا كانوا نيامًا فوقَ ظُهورها لا تَبْرُك خوفًا عليهم من السُّقوط. ويلتصقون بها عن البَرْدِ أثناء نومهم، فتميلُ بأجسامها عنهم لكيلا تُزْعِجَهم»، وفقًا لما أورد علي بن محمد الحَبَرتي، مؤلِّف «كتاب الإبل».
وأمّا المناسبةُ الثانيةُ: فهي نِقاشٌ مع أحدِ الأصدقاء، كان قد عَلَّقَ على مقالة لي نشرتُها مؤخّرًا حولَ صِلةِ العربيِّ بالإبل، واشتقاقِه منها كثيرًا من ألفاظِ لُغته، وأشار في أثناء ذلك إلى حكاية أَوْردَها الجاحظ في كتاب (الحيوان)، وجاء فيها أنه لمَّا أظْهرَ أمامه عبيد الكلابيّ حُبَّه الإبلَ والشَّغفَ بها، بادر الجاحظ إلى سؤاله: «أَبَيْنَها وبَيْنَكم قَرابةٌ؟ قال: نعم، لها فينا خُؤُولَةٌ. إنّي والله ما أعْني البَخاتِيَّ [وهي الإبل غير العربية ذات السَّناميْن]، ولكني أعني العِرابَ التي هي أعربُ! [والعِرابُ هي العربية ذات السَّنام الواحد] قلتُ له: مَسَخَكَ الله تعالى بَعيرًا! قال: الله لا يمسَخُ الإنسانَ على صورة كَرِيمٍ [ويعني البَعِيرَ]، وإنّما يمسَخُهُ على صورة لئيمٍ، مثل الخنزيرِ، ثم القردِ».
ولا أنسى هنا أنّ معنى الخُؤولةِ، كما عثرتُ عليه في بعض معاجمنا، هي مصدر الخالِ، كما يقول الخليل في (العين). والخالُ أخُو الأُمِّ، ومن معاني الخال أيضًا: الفَحْلُ الأَسْوَدُ من الإِبِلِ، وهذا المعنى، يُعزِّزُ دلالةَ الخُؤولة بين العربيّ وإبلِه، بقُوّةِ منطِقِ اللغةِ نفسِها.
لقد وَجَدْتُ لحكايةِ الجاحظ، التي صاغَها بسُخْريّتِه الأدبيةِ النَّاقِدَةِ، منذ القرن التاسع الميلاديّ، صدًى شبيهًا لما يتردَّدُ في ذاتي، من أثر حِكايَتيْن جَادَّتَيْن من زمننا هذا؛ الأُولى، رواها لي الأستاذ أحمد العسّاف، وهو من أبناء العقيلات، فقال: «كان أبي وَجَدِّي، ما مرَّ بهما بعيرٌ ولا ناقةٌ، إلَّا اِسْتَوَيَا واقِفيْن احترامًا للإبل وتقديرًا». والحكايةُ الثانيةُ، رَوَتْها لي شقيقتي، وفيها أنّ والدتي، رَحِمَها الله، كانت في آخر حياتِها، كُلَّما شاهدت التلفازَ يعرِضُ صورةَ ناقةٍ، هبّتْ إلى الشاشةِ تُقَبِّلُ فيها تلك الصورةَ، من فرطِ مَحَبَّتِها للنّاقةِ.
وبتأثيرِ تلك الحكاياتِ، عُدتُ إلى كتاب (الحيوان) أقرؤُه من جديدٍ، باحثًا في صفحاته عن ألفاظ الإبل، وما اتصل بها من مَرْوِيّاتٍ، ولئن لم أَجِدْ في الكتاب بابًا مخصصًا للإبلِ وعوالِمها، فإنّ هذا لا يمنَعُ من جَمْع شَتَاتِ ما ذُكِرَ في شأنها بمَتْنِه وهَوَامِشِه، وسأحاول اختصارَ ذلك في الآتي من مقالي، والزيادةَ عليه من مراجع أخرى، أهمّها: (جمهرةُ الأمثال)، لأبي هلال العسكريّ، ولا يفوتني الإشارة إلى أن محقق (الحيوان)، هو البروفيسور المصري عبدالسلام هارون (1909- 1988)، أحد أباطرة المحققين العرب، بل أشهر محققي التراث العربي في القرن العشرين، والذي عمل بدأب وإبداع على جل كتب الجاحظ، فحققها تحقيقًا لافتًا، وكساها بحُلى تعليقاته، وأخرج كتاب (الحيوان)، في ثمانية مجلدات، و(البيان والتبيين) في أربعة مجلدات، ومثلها (رسائل الجاحظ)، واستحق رحمه الله، على جهوده العظيمة، جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب، لعام 1981.
إِبِلٌ تَحمِلُ أَمْثَالَها
كُلُّ مَثَلٍ كان في أصْلِه حكايةً، ثمّ تُعْصَرُ الحكايةُ حتى يَرْشَحَ منها زيتُ حِكْمَتِها، فإذا انتشرتْ تلك الحكمةُ، وسارت بها الرُّكبانُ، سُمِّيَتْ مَثَلًا.
يقول العسكريّ: «ولما عَرَفَت العربُ أنَّ الأمثالَ تَتَصرَّفُ في أكثرِ وُجوه الكلامِ، وتدخُلُ في جُلِّ أساليبِ القولِ، أَخْرَجوها في أقْوَاها من الأَلْفاظِ، ليَخِفَّ استعمالُها، ويسهُلَ تداولُها؛ فهي من أجَلِّ الكلامِ وأنْبَلِه، وأشرَفِه وأفضَلِه؛ لقِلَّةِ ألفاظِها، وكثرةِ معانيها»، ويُضيف: «ومِنْ عجائِبِها أنَّها مع إيجازِها، تعمَلُ عَمَلَ الإطْنابِ، ولها رَوْعةٌ إذا بَرَزَتْ في أثناء الخِطَابِ».
غير أنّ في عبارةِ: «سارتْ بها الرُّكبانُ»، التي وُصِفَ بها المَثَلُ، معنيَيْن: معنى انتشارِ المَثَلِ، ومعنى وسيلةِ ذاك الانتشارِ. فالرُّكبان تُعبّر في الأصلِ عن راكبي الإبلِ، ثمّ عَمَّت دلالتُها لاحقًا على راكبِي كُلِّ دابَّةٍ. ومن الحكايات والأمثالِ التي تحمِلُها الإِبِلُ إلى جِهاتِ الدُّنيا، ما هو مختصٌ بها دون غيرِها، وقد جاء منها في كتاب (الحيوان) كثيرٌ، ومن ذلك المَثَلُ الذي أورده الجاحظ، ضمن حديثه عن الضّرب الشديد: «ضربناهم ضرب غرائب الإبل»، ويدعم معنى المَثَلِ ببيْتيْن من شعر أبي حيّة النّميري، وهو من أهل البصرة، ومن مخضرمي الدولتيْن الأُمَويّة والعبَّاسيّة:
جديرون يوم الرّوع أن يخضبوا القنا ** وأن يتركوا الكبش المدجّج ثاويا
ضربْناهمُ ضربَ الجنابى على جِبىً ** غرائبَ تغشاهُ حِراراً صَواديا
ويروى المَثَل: «ضَرَبه ضَرْبَ غَرائِبِ الإبِلِ»، كذا: «اِضْرِبْه ضَرْبَ غَرِيبَةِ الإبلِ»، ومِثْلُه قولُ الحَجّاج: «لَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غريبةِ الإبلِ»، وذلك أن الإبلَ إذا وَرَدَت الماءَ، فدخل فيها غريبةٌ من غيرِها، ضُرِبَت وطُرِدَت، حتى تَخْرُجَ منها. ولم تعد الإبل اليوم تفعل ذلك، لأن سُبلَ الحياةِ توَسَعَت، فصارَت الإبل تَشرَبُ من مَاءٍ خاصٍ بها، لا تُشَارِكُهَا غَريبة فيه.
ومن الأمثال التي تُحيلُ على الإبل، المثلُ القائلُ: «جاءنا بآبِدَةٍ»، ومنها أَوَابِدُ الوَحْشِ، وأوابدُ الأشْعَار،ِ وهي الأبيات الشهيرة التي لا مثيل لها، فتنتشر بين الناس، وتصير عندهم أمثالًا. والأوابد أيضا: الإبلُ إذا تَوَحَّشَ منها بعيرٌ، فَلَمْ يعد ممكنًا أن يُتَحكَّم فيه. وفي (جمهرة الأمثال)، لأبي هلال قَوْلُهم: «أَوْسَعْتَهُم سبًّا وأَوْدُوا بِالْإِبِلِ»، يُضْرَبُ مَثَلًا للرَّجُل يتهدَّد عَدوَّه، وَلَيْسَ على عَدوِّه مِنْهُ ضَرَرٌ، والمَثَلُ لكعب بن زُهَيْر، قَالَه لِأَبِيهِ زُهَيْر، وَكَانَ الحارِثُ بن وَرْقَاء الصَّيْدَاوِيُّ، من بني أٌسيد، أغارَ على إبلِ زُهَيْر، فَذهب بهَا وبراعيها يسَار، فَجعل زُهَيْر يهجوه ويتهدَّده، فِي مثل قَوْله:
يا حارِ لا أُرْمَيَن مِنكُم بِداهِيَةٍ ** لَم يَلقَها سوقَةٌ قَبلي وَلا مَلِكُ
اُرْدُدْ يسارًا وَلا تَعنُفْ عَلَيهِ وَلا ** تَمْعَكْ بِعِرضِكَ إِنَّ الغادِرَ المَعِكُ
لَيَأتِيَنَّكَ مِنّي مَنطِقٌ قَذَعٌ ** باقٍ كَما دَنَّسَ القُبطِيَّةَ الوَدَكُ
فَلَمَّا أَكثر من هجائِهم وهُم لَا يكترِثون، قَالَ لَهُ ابْنُه كَعْب: (أَوْسَعْتَهُم سَبًّا وَأَوْدُوا بِالْإِبِلِ)، أَي: «لَيْسَ عَلَيْهِم من هجائِك إيَّاهُم كَبِيرُ ضَرَرٍ عِنْد أنْفُسِهم، وَقد أَوْدُوا بإبِلِكَ فأَضَرُّوا بِكَ».
خِيرةُ رُعاةِ الإبل
وحتى يمنع الجاحظُ عنّا المَلَلَ، ويُجدِّدُ فينا رغبةَ قراءة كتابه، يُسارِعُ إلى إخبارِنا بأنّ أصحابَ الإبلِ، يعرفون أنّ هناك من الأقوامِ مَن يُحسِنُون رعاية الإبل، مثل بعضِ النُّوبةِ والبربرِ والرُّومِ، لأنَّهم يَصْلُحون على مَعَايِشِها، وتَصْلُحُ على قِيَامِهم عليها. ثمّ هو يتعجّبُ، مثلما أتعجّبُ الآن، من إجادةِ رِجالِ الرُّوم رعايةَ الإبلِ، والحالُ أنّ في دُخولِ الإبلِ بلادَ الرُّومِ هلاكَها، لأنّ المناخَ فيها غيرُ المناخ الذي يُناسبُ طبيعةَ هذه المخلوقاتِ. ثمّ يختم حديثه عن رَعْيِ الإبلِ، بعبارةٍ لم يُعلِّقْ عليها كما يفعل في العادةِ، فيقول: «وكان من الأنبياءِ عليهم السلام مَنْ رعى الغَنَمَ، ولم يَرْعَ أحدٌ منهم الإبلَ».
ومن حديث الجاحظ عن الإبل التي تُرْعَى، ينتقِلُ بنا إلى الحديثِ عن النُّوقِ المَهْريّةِ (وهي نجائبُ سريعةُ العَدْوِ، تُنسَبُ إلى قبيلة مَهْرة بن حَيْدان)، فيقول: إنّ مِن النّاس مَن يزعمُ أنّ مِن الإبلِ مَن يتوحّشُ، قِياسًا على توحُّشِ الحميرِ، والسّنانيرِ، والحمامِ. ولأنّ الحيوانَ كلّما اشتدّتْ وَحْشِيّتُه، كان للخَلاء أطلبَ، فإنّ تلك الإبلَ تنتقل إلى العيشِ في أرضِ وَبَار، وهي أرضُ الجِنِّ الضائعةُ غيرُ المسكونةِ، التي أهلك الله تعالى أهلَها، كما أهْلَكَ اُممَ عادٍ وثمود، فبقيت إبِلُهم في أماكنهم، لا يبلغُها إنسيٌّ على حَدِّ ما تقولُ الأسطورةُ، وقد يَضِلُّ أحدُ الجِمَالِ المتوحِّشةِ طريقَه، فيخرج من تلك الأرضِ، وربّما صادف إبِلًا أهليّةً، فيَضْرِبُ ناقةً منها، فتكون المهريّةُ نتاجًا لذلك.
الراقصاتُ
الراقصاتُ هي الإبلُ حين تُسْرع في سَيْرِها. وفي مدار هذا السَيْرِ تحضُرُ أمثالٌ وقصصٌ، ذكر منها الجاحظ قولَ القطاميّ التغلبيّ حين وصف إفراطَ ناقته في المرح والنّشاط:
يَتْبَعنَ ساميةَ العينينِ تحسَبُها** مَجنونةً أَو تَرَى ما لا ترى الإبِلُ
وقال الحطيئة:
لَعَمرُكَ ما قُرادُ بَني كُليبٍ ** إِذا نُزِعَ القُرادُ بِمُستَطاعِ
ويشرح الجاحظ ذلك بالقول: إنّ الفحلَ يَمْنَعُ أن يُخْطَمَ، فإذا نزعوا من قراداتِه شيئًا لَذَّ لذلك، وسَكَنَ إليه، وَلَانَ لصَاحبِه، فعند ذلك يُلْقِي الخِطامَ في رأسِه.
وفي مضمار سَيْرِ الإِبِلِ وأنواعِه، يورد صاحب كتاب (الحيوان)، حكايةَ «الجمّازات»، وهي النّوقُ المسرعاتُ في عَدْوِها، ويذكر في شأنها أنّ أصلَ هذه التسمية، يعود إلى أمِّ جعفر [زبيدة بنت جعفر زوج هارون الرشيد]، التي أَمَرَت الرَحَّالينَ أنْ يزيدوا في سَيْرِ النَّجيبةِ، التي كانت عليها حتى تلحق بموكبِ الرَّشيد، فلما تحَرَّكتْ نجيبتُها ومَشَتْ بها ضُرُوبًا من المَشْيِ عديدة، ثم جَمَزَتْ [أسرَعَتْ] في خلال سيرها، وأحدث ذلك راحةً في نفسها، بل هي وجدت لذَةً في ما يحدثه ذاك الجمزُ من تمايلٍ واهتزازٍ، فأَمَرَتْ جَمَّاليها بأن يَسِيرُوا بها في تلك السِّيرَةِ، ويحافظوا على ذاك الإسراعِ، وهي في كلّ ذلك تُصَوِّبُهم نحو أثرِ موكب الرشيد، وتُخَطِّئُهم على قَدْرِ ما عَرَفَت، حتى تَمَّ لها الأمرُ وبلغت القَصْدَ. ويُعلّق الجاحظ على هذه الحكايةِ بقوله: «وكذلك لا يخلو جميعُ أمْرِكم، مِنْ أن يكون اتّفاقًا، أو اتّباعَ أثَرٍ».
قِلّةُ الحِيلةِ وقوّةُ الاحتيالِ
تعرفُ الإبلُ ما يضرُّها وما ينفعُها، هذا ما يؤكِّدُه الجاحظ في (الحيوان)، ويؤكده من لَهُ أَدنى معرفة بها. ودليلُ الجاحظ، أنَّ «البعيرَ يدخل الرَّوْضةَ والغَيْضةَ، وفي النَّبات ما هو غِذاءٌ، ومنه ما هو سُمٌّ عليه خاصة، ومنه ما يخرُجُ من الحالَيْن جميعًا، ومن الغِذاء ما يريده في حالٍ، ولا يريده في حالٍ أخرى، كالحَمْضِ والخُلَّةِ، ومنه ما يَغْتَذيه غير جِنْسِه، فهو لا يَقْرَبه وإنْ كان ليس بقاتلٍ ولا مُعْطِبٍ. فمن تلك الأجناس ما يعرفه برؤيةِ العين دون الشمّ، ومنها ما لا يعرفه حتّى يشمَّه، وقد تغلط في البِيشِ فتأكله (والبيشُ نَباتٌ سامٌّ يُشبه الزَّنْجَبِيلِ)».
وقد تعرِضُ للإبلِ عوارضُ تَقِلُّ فيها حيلتُها، ويكون فيها هلاكُها، رغم قوّةِ تمييزها وقوّةِ جسدها، وفي هذا يقول الجاحظ: «ومن عجيب سُمِّ الأفاعي، ما خَبَّرَني به بعضُ من يَخبُر شأنَ الأفاعي، قال: كنتُ بالبادية ورأيت ناقةً ترتعُ، وفَصِيلُها يَرْتَضِعُ من أخْلافِها، إذْ نَهَشَتْ الناقةَ على مشافِرِها أفعى، فبقيَتْ واقفةً سادِرَةً، والفصيلُ يَرْتَضِعُ، فبَيْنَا هو يَرْتَضِعُ إذْ خَرَّ مَيِّتًا».
ولا ينسى الجاحظ، كعادته، استثمارَ وعيِه النقديِّ، فيلوذ بعبارة المَثَلِ: «كالبعيرِ المذْبُوبِ»، لتسليط نقدِه على مظاهر بيئته الاجتماعية، فيشرح تلك العبارةَ بالقول: إنه البعير الذي فيه غُدّةٌ (وهي طاعون الإبل)، تجعل الذُّبَّانَ يسقط عليه. والجَمّالون يعرفون أنّ الغُدَّةَ إذا فَشَتْ أو أصَابَتْ بعيرًا نقلَ الذُّبّانُ العدوى إلى غيرِه من الإبلِ. ثمّ يورد حكاية احتيالِ حُدَاةِ الإبلِ على صاحبها خاصّةً إذا كان في جِمَالِه الجَمَلُ النفيسُ أو الناقةُ الكريمةُ، وذلك ليرتاحوا من مَشقّةِ رَعْيِ تلك الإبلِ، فترى الواحدَ منهم يعمَدُ إلى الخَضْخاضِ (وهو ضَرْبٌ من القَطِران أَسودُ رقيقٌ، تُطْلى به الإِبلُ الجَرْبَى) فيَصُبُّ فيه شيئًا من دِبْس، ثم يَطْلِي به ذلك البعيرَ النّفيسَ، فإذا وَجد الذُّبَّان ريحَ الدِّبْسِ تَساقَطْنَ عليه. فيدَّعي عند ذلك أنّ به غُدّةً، وشاهده على ذلك عند صاحب الإبل ما يُوجد على البعيرِ من الذُّبان!
أما الثعالبي، فذكر في كتابه (فقه اللغة)، أن «البِكرَ مِن الإِبِلِ بمَنزِلَةِ الفَتَى، والقلوصَ بمَنزِلَةِ الجَارِيَةِ، والجَمَلَ بمَنزِلَةِ الرَّجُلِ، والنَّاقَةَ بمَنزِلَةِ المَرأَةِ، والبَعِيرَ بمَنزِلَةِ الإِنسان».
[ad_2]
Source link