[ad_1]
حديثنا هنا، الذي نعتمد في الكثير من جوانبه على ما نشره الأستاذ محمد بن عبدالله السيف في العدد رقم 551 من «المجلة العربية»، هو عن «السيد ولي الدين أسعد»، الذي يعد من رواد البعثات التعليمية السعودية الأوائل ومن الذين كانت لهم بصمات لا تُنسى على حياة العديد من الطلبة السعوديين المبتعثين إلى الجامعات المصرية ممن صار لهم شأن رفيع فيما بعد في مختلف أجهزة الدولة السعودية، بل هو من أوائل من أداروا الملحقيات التعليمية والثقافية السعودية في الخارج.
ولد «ولي الدين بن علي بن أحمد أسعد» في حي الساحة القريب من المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة في عام 1903، ابناً لأسرة شريفة رفيعة النسب من العلماء الأجلاء الذين مارسوا التدريس والإفتاء والإمامة والخطابة على مدى عقود من الزمن، ومنهم جده السيد أحمد أسعد المولود بالمدينة سنة 1829، الذي تولى رئاسة الأئمة والخطباء في الحرم النبوي، وكان من الشخصيات رفيعة المقام والسجايا في مجتمع المدينة المنورة.
وعند البحث عن نسب آل أسعد، نجد أنهم فرع هاشمي من العترة النبوية الشريفة من ذرية الإمام الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن جذورهم تعود إلى السيد الوجيه عبدالله المدني، الذي عاش في المدينة المنورة في القرن الخامس الهجري وكان أول من سكنها من السادة الرفاعية القرشيين من ذوي المنزلة الرفيعة. أما جد آل أسعد الأكبر فهو الفقيه العلامة السيد أسعد ابن أبي بكر الأُسْكُداري (1057 ــ 1116 للهجرة) مفتي الأحناف في زمنه، الذي ولد في المدينة المنورة بعد انتقال والده إليها للاستقرار، علماً بأنه تلقى العلم على يد والده وعلى يد قاضي المدينة مكي أفندي، واستزاد علماً ومعرفة بالطواف على مصر وبلاد الشام، قبل أن يشتغل بتدريس الفقه والأحكام الشرعية في المسجد النبوي الشريف لمدة تجاوزت الأربعين عاماً، تولى خلالها منصب مفتي الحنفية عام 1092 للهجرة، وكتب إبانها مؤلفاً ضخماً في الفتاوى والأحكام على المذهب الحنفي.
ومن بين آل أسعد الذين برزوا في القرن الهجري الماضي (القرن الثالث عشر)، «السيد محمد أسعد» و«السيد أحمد أسعد» (جد المُتَرجم له) وهما أخوان من عقب السيد عبدالله ابن العلامة السيد أسعد بن أبي بكر، الوارد ذكره آنفاً. الأول ولد وعاش ودرس وتوفي بالمدينة المنورة، وكان ممن اشتغل بالتدريس والإمامة والخطابة، أما الثاني فقد ولد ودرس واشتغل بالإفتاء في المدينة المنورة أيضاً لكنه انتقل للعيش في إسطنبول حيث اتصل هناك بالسلطان العثماني عبدالحميد الثاني الذي وثق به وقربه، إلى أن توفي ودفن في تركيا، مخلفاً وراءه عدداً من البنين والبنات معظمهم عادوا إلى الحجاز، وقلة منهم بقيت هناك.
أول بعثة تعليمية إلى مصر
بالعودة إلى سيرة السيد ولي الدين أسعد المتوفى سنة 1970، نجد أنه درس في كتاتيب المدينة المنورة التقليدية وحلقات المسجد النبوي، شأنه في ذلك شأن أبناء جيله. وفي فترة لاحقة التحق بالمدرسة الرشدية (مدرسة أسسها الأتراك العثمانيون بالمدينة عام 1885)، حيث تلقى علومه على يد عدد من العلماء ممن كانت مدينة الرسول تفاخر بهم من أمثال محمد الطيب الأنصاري وماجد بري ومحمد العُمري وماجد عشقي وغيرهم.
وفي عام 1928 كان صاحبنا ضمن 14 طالباً من طلبة البعثة التعليمية الأولى التي قررت مديرية المعارف العامة في مكة المكرمة إرسالها إلى مصر للدراسة في كليات القاهرة من أجل التخصص في مجالات محددة شملت التربية والعلوم الشرعية والزراعة والطب. وكان من نصيب أسعد الالتحاق بكلية دار العلوم التي واصل دراسته فيها على نفقة أسرته، بعد أن تمّ إلغاء البعثة التعليمية بسبب الظروف المالية الصعبة التي عانت منها بلدان كثيرة في تلك الفترة المضطربة. وهكذا تخرج الرجل من كلية دار العلوم في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، فصار من «الدرعميين» (أي الدار علوميين)، وهي صفة تطلق على خريجي هذه الكلية لتمييزهم عن غيرهم، بل كان واحداً من ثلاثة طلاب مبتعثين فقط قدر لهم الاستمرار وعدم الانقطاع (الآخران هما محمد شطا وأحمد العربي).
عاشق للأدب والثقافة
مما يذكر عن أسعد أنه كان منذ صباه ويفاعته في المدينة المنورة شغوفاً بالقراءة الحرة، مدمناً على الاطلاع، عاشقاً للأدب والثقافة، وحينما انتقل للدراسة في مصر واصل هذا التوجه، بدليل قيامه مع ثلة من زملائه المبتعثين بتأسيس ما عُرف بـ«ندوة الأدب العربي» في القاهرة، وهي جماعة أدبية وجدت التشجيع والدعم فترتئذ من أدباء وشعراء مصريين كبار في مقدمتهم أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 ــ 1932) وشيخ العروبة أحمد زكي باشا (1867 ــ 1934)، ثم بدليل استثمار وجوده بمصر في زيارة أدبائها وشعرائها ومفكريها للتعرف عليهم والاستفادة منهم، وأيضاً لتعريفهم بمظاهر الحركة الثقافية والأدبية والصحفية في البلاد السعودية. وعدا عن «ندوة الأدب العربي»، قام أسعد مع بعض من زملائه بالمساهمة والمشاركة في تأسيس «جمعية الهداية الإسلامية» التي ترأسها عالم الدين التونسي من أصل جزائري وشيخ الأزهر في الفترة من 1952 إلى 1954 العلامة محمد الخضر حسين (1876 ــ 1958).
كتب الأستاذ محمد السيف عن العوامل التي لعبت دوراً في تشكيل شخصية أسعد فقال «ولا شك أن للأحداث التي شهدتها المدينة المنورة في طفولته وفي ريعان شبابه، والتحولات التي كان يمر بها العالم العربي، ودراسته في القاهرة، كان لها جميعاً دور كبير في تشكيل شخصيته وتكوين وعيه الثقافي والفكري، مما انعكس تالياً على حماسته الوطنية وتفانيه في خدمة بلاده».
بعد عودته من مصر إلى الحجاز مكللاً بشهادته الجامعية، تمّ توظيفه مفتشاً تعليمياً بمديرية المعارف بمكة المكرمة. وفي هذه المرحلة تعرف، من خلال عمله، على مديره السيد محمد طاهر بن مسعود الدباغ (1897 ــ 1959)، وهو من رجالات التربية والإدارة والسياسة الأوائل في الحجاز، والشخصية الوحيدة التي تجرأت فخاطبت الشريف حسين بن علي، باسم أهل الحل والعقد في الحجاز، طالبة منه التنحي عن الحكم لصالح ولي عهده الشريف علي (الملك علي بن الحسين لاحقاً). وكان الدباغ قد عُيّن في 1935 مديراً لمديرية المعارف في مكة بأمر من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، بعد أن عاد إلى وطنه من منفاه الاختياري استجابة لنداء الملك إلى كل رموز العهد الهاشمي المهاجرين بالعودة للنهوض بوطنهم. والمعروف أن فترة الدباغ في قيادة مديرية المعارف بمكة تميزت بنشر التعليم على نطاق واسع وتعديل المناهج الدراسية وتطويرها واستئناف إرسال البعثات التعليمية إلى مصر من بعد انقطاع. وهكذا حينما أراد الدباغ إيفاد البعثة الدراسية السعودية الثانية سنة 1936، لم يجد أفضل من السيد ولي الدين أسعد ليسند إليه مهمة مرافقة البعثة والإشراف على شؤون طلبتها، نظراً لما وجده فيه من صدق وأمانة وإخلاص وجلد على العمل.
مراقب عام للبعثات التعليمية السعودية
في القاهرة، وعلى مدى عقدين من الزمن، عمل أسعد مراقباً عاماً للبعثات التعليمية السعودية، باذلا جهداً كبيراً في رعاية مواطنيه المبتعثين، ساهراً على راحتهم، ومتابعاً تحصيلهم، ومنظماً لشؤون ولوائح الابتعاث. وفي الوقت نفسه كان يخدم مديرية المعارف السعودية لجهة تلبية كل احتياجاتها المتنامية مع توسيع رقعة انتشار المدارس في مختلف أرجاء البلاد السعودية. وفي هذا السياق كتبت ابنته «ثريا ولي الدين أسعد» في كتابها الموسوم «تاريخ باقٍ وأثر ممتد» ما مفاده أن والدها كان يقوم، إلى جانب مهمته الأساسية، بأعمال أخرى مثل اختيار المدرسين المنتدبين للتدريس في السعودية، وتلبية الطلبات الواردة والخاصة بالكتب والمقررات والأدوات العلمية والقرطاسية.
لقد كان أسعد، في الكثير من الأحيان، يتخطى الرسميات والشكليات في تقديم خدمات شخصية لطلبة البعثات السعودية، ليست بالضرورة من صميم عمله، وذلك شعوراً منه بواجبه نحوهم في مجتمع جديد لم يألفوا بعد تقاليده وصرعاته. من ذلك ما رواه الوزير والمستشار الراحل الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر في كتابه «وسم على أديم الزمن» من أنه زمن دراسته في القاهرة في الخمسينات مبتعثاً من الدولة اضطر للاستعانة بمدير البعثة ولي الدين أسعد لحل مشكلة توفير ملابس إفرنجية له ولزميله صالح الجهيمان كي يرتدياها في الجامعة، وذلك لضيق الوقت الحائل دون تفصيل ملابس بالمقاسات والألوان المناسبة، فلم يتردد أسعد في مساعدتهما بأن أمر أحد موظفيه بمرافتهما إلى شركة مصر للنسيج واختيار ما يناسبهما من بدلات جاهزة من مختلف الألوان والأشكال والقياسات.
ومما لا شك فيه أن جهود أسعد هذه كانت محل تقدير واستحسان رؤسائه، ولم تغب عن أنظار المسؤولين السعوديين، وهو ما تجلى في ترقيته إلى منصب معتمد المعارف السعودية بالقاهرة ومعتمد الثقافة فيها، ومع تضاعف أعداد الطلبة السعوديين كل عام، وعدم قدرة جامعة فؤاد الأول بالقاهرة على استيعابهم، بدأ إرسال بعضهم إلى جامعة فاروق الأول بالإسكندرية، ما استدعى افتتاح ملحقية تعليمية سعودية في الإسكندرية برئاسة الأستاذ صادق كردي، كان لأسعد دور في تأسيسها ومتابعة نشاطها ودعمها بالخبرة والمشورة.
وبحكم منصبه، كلفته بلاده بتمثيل مديرية المعارف السعودية في اللجنة الثقافية بالجامعة العربية مع الأستاذين خيرالدين الزركلي وعبدالرحمن البسام، حيث ساهم بعلمه وخبرته في إصدار التوصيات والقرارات الخاصة ببرامج التعليم في الدول العربية. كما مثل بلاده في المؤتمرات العلمية التي عُقدت في سوريا والعراق ومصر، وشارك في مؤتمر وزراء المعارف العرب الذي عُقد في القاهرة عام 1951 مع مدير المعارف العام، الشيخ محمد بن مانع والأستاذ عبدالله عبدالجبار.
أشرف أسعد إبان توليه منصبه التربوي والثقافي في مصر على تخريج أسماء مبتعثين معروفين ممن تسنموا أعباء مناصب رفيعة في الدولة وفي القطاع الخاص من أمثال: عبدالله الطريقي (وزير النفط) وحسن نصيف (وزير الصحة) وعبدالله محمد الدباغ (وزير الزراعة) وعبدالله الملحوق (السفير ورائد الصحافة) وعبدالله عريف (من رواد الصحافة) وعبدالله عبدالجبار (أديب وناقد وتربوي) وإبراهيم السويل (وزير الخارجية) وأحمد عبدالغفور عطار (أديب وشاعر)، وحمد الجاسر (علّامة ومؤرخ) ومحسن باروم (أديب وتربوي ودبلوماسي) وعبدالعزيز الخويطر (مستشار ووزير المعارف) وحامد دمنهوري (روائي وأديب وشاعر) ومحمد فدا (تربوي) وعبدالله الخيال (سفير) وعبدالعزيز المعمر (سفير) وأحمد صلاح جمجوم (وزير التجارة) وحامد محمد هرساني (وزير الصحة).
1952.. الدفعة الوزارية
وكانت آخر دفعة طلابية أشرف عليها، هي تلك التي تخرجت مع حدوث التغيير السياسي في مصر في 23 يوليو 1952، وكانت تضم كلاً من: ناصر المنقور (وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء والسفير في عدد من الممالك) وعبدالوهاب عبدالواسع (وكيل وزارة المعارف) وأحمد زكي يماني (وزير النفط والثروة المعدنية) وإبراهيم العنقري (وزير الإعلام ووزير الشؤون البلدية والقروية) وعبدالرحمن أبا الخيل (السفير ووزير العمل والشؤون الاجتماعية) وعبدالرحمن المنصور (وكيل وزارة العمل) وحسن المشاري (وزير الزراعة والمياه) ومحمد عبدالرحمن الفريح (الناقد والشاعر والملحق الثقافي لدى سوريا ولبنان ورجل الأعمال)، وغيرهم.
في أواخر عام 1953 بُويع الأمير سعود بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد السعودية خلفاً لوالده الملك المؤسس، فسارع إلى تشكيل مجلس الوزراء وتأسيس عدد من الوزارات الجديدة، كان من بينها وزارة المعارف التي عُهد بحقيبتها إلى الأمير فهد بن عبدالعزيز (الملك في ما بعد). أراد الأخير وقتها الاستعانة بالخبرات والكفاءات الوطنية لتطوير أعمال وزارته الوليدة، فتوجهت أنظار سموه نحو السيد ولي الدين أسعد، غير أن أسعد رأى أنه قدم كل ما لديه ولم يعد قادراً على تقديم المزيد، بل كان قد رتب أوضاعه حينذاك للبقاء في القاهرة إلى جانب بناته وأبنائه الدارسين في مصر، وبدء مشروعه التربوي الخاص، خصوصاً أنه خلال عودته إلى السعودية كان يعني انقطاع بناته عن الدراسة بسبب عدم وجود مدارس للبنات في المملكة في تلك الفترة.
مدارس منيل الروضة الخاصة
وهكذا بقي أسعد في القاهرة التي دشن بها بمشاركة ابن عمه «علي بن عبدالمحسن أسعد» مشروعاً تربوياً رائداً تمثل في إنشاء «مدارس منيل الروضة الخاصة»، وذلك من أجل تلبية رغبات واحتياجات أبناء وبنات السعوديين المقيمين في القاهرة. ولتحقيق هذا الهدف على أكمل وجه حرص على أن تتضمن مدرسته قسماً داخلياً بالمراحل الدراسية الأربع (الحضانة والابتدائي والمتوسط والثانوي)، واختار لها مشرفاً صحياً من عائلته ونخبة من المعلمين والمعلمات الأكفاء، وهيأ لها بيئة تربوية نموذجية مع إيلاء اهتمام خاص بغرس الآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة والانتماء الوطني في نفوس المنتسبين لها. وبهذا العمل قدم أسعد للكثير من العائلات السعودية التي توافدت على مصر في الخمسينات للإقامة أو العمل أو تزويد أطفالها بالعلم خدمة جليلة، خصوصاً أن مشروعه هذا كان ذا صبغة وطنية. وفي هذا السياق سُجل عن أحد طلاب المدرسة وهو عبدالوهاب الزغيبي (ابن السفير السعودي الأسبق في القاهرة المرحوم محمد المرشد الزغيبي) قوله «لم تكن المدرسة عملاً تجارياً، بل كان هدفها تربوياً»، كما سُجل عن الشاعرة والأديبة السعودية «البتول محمد طاهر الدباغ»، التي درست بمدرسة منيل الروضة قولها «كنا نعيش في مصر مجتمعاً مختلفاً، لكن عندما نذهب للمدرسة نشعر أننا انتقلنا إلى مجتمعنا السعودي الصغير، فلا نشعر بالغربة».
ظل حلم ولي الدين أسعد المتمثل بمدرسة منيل الروضة يكبر، ويستمد من روح وفكر صاحبها الدعم والإشراف والمتابعة والتغلب على كل المعوقات، ويحظى بآيات الإعجاب والتقدير من جانب أولياء أمور طلبتها من أعيان ووزراء وأدباء وصحفيين سعوديين وعرب إلى أن انتقلت ملكيتها إلى أحد رجال التربية والتعليم المصريين. ولم ينسَ أسعد وهو يودع لدى الأخير مشروعه الأثير بيعاً أن يوصيه بمنح الأولوية في القبول للطلبة السعوديين الذين أنشئت المدرسة خصيصاً لهم، وأنْ يؤكد على مبدأ الهدف غير التجاري والربحي من وراء فكرة المدرسة التي لا تزال قائمة في شارع سعيد ذوالفقار بميدان الباشا بالمنيل في مصر القديمة.
[ad_2]
Source link