[ad_1]
في البدايات المبكرة لمرحلة الشباب كنا منجذبين إلى أغاني مطرب الكويت الكبير الفنان المجدد «شادي الخليج»، الذي كانت الإذاعة الكويتية تكرر بث أغانيه العاطفية الجميلة طوال اليوم. وفجأة وجدنا أنفسنا في عام 1963 أمام أغنية جديدة له، مختلفة عن سابقاتها، من ألحان الموسيقار أحمد باقر. تلك كانت أغنية «كفي الملام» التي يقول مطلعها:
كفِّي الملام وعلِّليني ** فالشكّ أودى باليـقينِ
وتناهبت كبدي الشجون ** فمَنْ مجيري مِنْ شجوني
وأمَـضَّني الدّاءُ العـياءُ ** فمَـنْ مغيثي مَنْ معيني.
كانت هذه القصيدة غريبة علينا وقتذاك، فهي لم تكن عاطفية موجهة إلى الحبيبة بالمعنى المألوف، وإنما قصيدة يفوح من أبياتها الألم والمعاناة والعزلة المريرة، ناهيك عن أنها كانت تخاطب الأم بلوعة وحرقة:
أُمّاهُ قد غَلَبَ الأسى ** كُفّي الملامَ وعلّليني
اللَه يا أمّاهُ فيَّ ** ترَفّقي لا تعذُليني
أرهَقتِ روحي بالعتابِ ** فأَمسِكيه أو ذَريني
أنا شاعرٌ أنا بائسٌ ** أنا مستهامٌ فاعذُريني
أنا مِن حنيني في جحيمٍ ** آهِ من حرّ الحنينِ
أنا تائه في غيهَبٍ شبح ** الردى فيه قريني
ضاقَت بيَ الدنيا دَعيني ** أندبُ الماضي دَعيني
وأنا السجينُ بعقرِ داري ** فاسمَعي شكوى السجينِ
بهزالِ جسمي باصفراري ** بالتجعّدِ بالغُضونِ.
ولعل هذا هو ما دفعنا للبحث عن كاتبها لمعرفة حكايته، فعرفنا أن ما غناه شادي الخليج لم يكن سوى أبيات مختارة من قصيدة طويلة بعنوان «شهيق وزفير»، نظمها في عام 1946 الشاعر الكويتي فهد العسكر، مخاطباً فيها أمه التي جاءته طالبة منه أن يشفق على حاله ويغير سلوكه ويقلع عن أفكاره المتحررة التي بسببها اتُّهم بالزندقة وقاطعته أسرته وحاربه مجتمعه، رغم مرضه وضعف حاله، حيث كانت أمه الوحيدة من بين أفراد أسرته التي لم تقاطعه وظلت على اتصال به، فيما الآخرون جميعاً ــ باستثناء بعض أدباء ومثقفي زمنه ــ سلّوا سيوفهم ضده وتطاولوا عليه لا لشيء سوى أنه آمن بأفكار غير مألوفة توخى من خلالها تحريك المياه الراكدة في مجتمعه من أجل النهوض به، موظفاً في ذلك موهبته الشعرية.
شغف اللغة والأدب
ولد فهد صالح محمد عبدالله علي العسكر الظفيري في سكة عنزة بمدينة الكويت في حدود عام 1917 تقريباً، ابناً لأسرة محافظة نجدية الأصل، كان أبوها إماماً لمسجد الفهد ومدرساً للقرآن الكريم ومحصلاً للجمارك، فنشأ على تعاليم الدين وأحكامه، بل عـُرف في بداية حياته بتدينه ومواظبته على أداء الفروض الدينية على أكمل وجه. أما دراسته فقد بدأها في الكتاتيب التقليدية قبل أن يلتحق في عام 1922 بالمدرسة المباركية (أولى مدارس الكويت النظامية)، التي تولع فيها بقصائد المتنبي وأبي تمام والفرزدق وغيرهم، ما ساهم كثيراً في بناء قدراته اللغوية والأدبية، بدليل أنه بدأ يكتب الشعر ويؤسس لنفسه خطاً مختلفاً عن مجايليه في اللغة والأسلوب بإشراف معلمه الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي. ومن المباركية انتقل للدراسة في المدرسة الأحمدية، لكنه تركها في عام 1930 ولم يكمل تعليمه.
إن شغفه الشديد باللغة والأدب والشعر ساهم في بروزه لاحقاً كأحد شعراء الكويت والخليج الرواد، بل إن أدباء عصره ــ ومن بينهم صديقه الأديب عبدالله زكريا الأنصاري الذي كان أول من أصدر كتاباً عنه سنة 1956 ــ كانوا يترددون عليه ويعرضون أمامه أعمالهم طالبين رأيه ونصائحه. غير أن شغف العسكر بالقراءة، من جهة أخرى، دفعه إلى الاطلاع على كل ما تقع عليه يده من الكتب الحديثة الفلسفية والدينية والسياسية والاجتماعية والنقدية، والمجلات الصادرة في القاهرة ودمشق وبغداد، من تلك التي كان يستعيرها بأجر رمزي من «مكتبة الرويح»، فكان لذلك تأثير بالغ على أفكاره وآرائه في الحياة، وتبعاً لذلك تطور شعره باتجاه التجديد والتحرر من الموروث والانفتاح على العالم الخارجي. فتحوّل من شاعر تقليدي محافظ وشديد التديّن إلى شاعر رومانسي ثائر على التقاليد الموروثة، حالم بمستقبل أفضل، شديد الجرأة في محاربة ثوابت المجتمع القديمة والمتعصبين من بني قومه، وهي الجرأة التي أوصلته إلى حدود التهور في كثير من الأحيان، ما أسهم في تحريض أسرته ومجتمعه عليه، وإثارة غضبهما. وهكذا رماه الجهلة من الناس بالزندقة والجحود والفسق، ولم يكن الرجل كذلك، بدليل قصائد نظمها آنذاك تضمنت خلاف ما اتُّهم به.
ملّه أهله واعتزلوه
وعلى إثر تلك الاتهامات، يقول صديقه الأنصاري «ملّه أهله واعتزلوه، وأصبح يعيش في وحدة تامة، مع خياله حيناً ومع كتبه حيناً آخر، وأصبحت حياته سلسلة من الآلام والأحزان انعكست على شعره، وهرب من ضيق الحياة إلى الراح، فصار يحتسيها وينفس بها عن أحزانه وآلامه وهمومه». وقد عبّر في إحدى قصائده عن حالة الاستياء والانعزال التي وصل إليها قائلاً:
نصيبك يا نفسي شقاء وحرمان
وحظي من الأيام زور وبهتـــان.
ولم يتوقف الأمر عند نبذه ومقاطعته والتطاول على شخصه وآرائه، بل قام أقاربه بحرق كتبه وأشعاره كي تنمحي سيرته ويطويها النسيان. ولولا احتفاظ أصدقائه ومحبيه القلائل ببعض قصائده لما وصلنا شيء منها. وفوق هذا وذاك عانى شاعرنا كثيراً بعد وفاة والده. إذ وقف كل من شقيقه ووالدته حائلاً دون رغبته في الحصول على نصيبه من ميراث أبيه خوفاً من إسرافه، مما ضاعف أحزانه، فقرر أن ينفصل عنهما ويعيش وحيداً ويكرس وقته لكتابة الشعر، مع رفض قطعي لفكرة الزواج والإنجاب، حيث كتب صديقه «أحمد السيد عمر» في مقاله عنه ضمن الملف الخاص لمجلة العربي عن العسكر (العدد 243 ــ يناير 2004)، أنه حاول مراراً إقناع العسكر بالزواج وإنجاب أبناء يخلدون اسمه، فكان يرفض ويرد أن أشعاره هي أبناؤه وهي التي ستخلد ذكراه. ويُقال، إن أحد أسباب بقائه عازباً هو تعلق قلبه بحب فتاة اسمها ليلى لم يستطع الزواج منها لأن أسرتها زوجتها لشيخ ثري. وقد عبر عن غضبه مما حدث لها وله من خلال أبيات شعرية منها:
ليلى تعالي زوديني ** قبل الممات وودعيني
ليلى تعالي واسمعي ** وحي الضمير وحدثيني
ليلاي لا تتمنعي ** رحماك بي لا تهجريني
ودعي العتاب إذا التقينا ** أو ففي رفق ولين.
وهكذا أكمل العسكر ما تبقى من عمره معزولاً في غرفة مظلمة في إحدى البنايات القريبة من «سوق واقف» وسط العاصمة الكويتية، وأخذت صحته في التدهور، وبدأ بصره يضعف شيئاً فشيئاً بسبب مرض أصاب عينيه، ولم يكن في الكويت وقتذاك أطباء للعيون ليتولوا علاجه، كما لم يكن لديه ما يكفي من المال للسفر إلى بغداد من أجل العلاج، وهو ما أودى به إلى فقدان بصره في نهاية المطاف مثل ما حدث لوالده، والمعروف أن والده صالح العسكر حينما ضعف بصره سافر إلى الهند للعلاج ثلاث مرات، اصطحب معه في المرة الثالثة ولده فهد ذا السنوات الست، فعرف شاعرنا الهند وما بها من عجائب ومغريات وجمال وهو في سن الطفولة، وهذا قد يكون أحد مصادر إلهامه.
تدهور صحته وحيداً
وفي خضم حياته البائسة المظلمة هذه، أشفق عليه شقيقه خالد العسكر، فجاءه ونقله إلى بيته حيث أقام شاعرنا عند الأخير لمدة ثلاثة أشهر فقط انتهت بتفاقم حالته سوءاً، وهو ما جعل شقيقه ينقله للعلاج والعناية بالمستشفى الأميري، الذي أمضى فيه شاعرنا ما يزيد على الشهرين، فتك خلالهما مرض السل برئتيه، ليتوفى وحيداً منبوذاً في 15 أغسطس 1951 عن 34 سنة، ولينقل جثمانه إلى مسجد المديرس للصلاة عليه، حيث لم يصلّ عليه إلا الشيخ عثمان عيسى العصفور وأحمد علي راشد العجيل وثلاثة من المصلين اليمنيين، وبعد الصلاة ووري الثرى في المقبرة العامة بجانب قصر نايف، ولم يجرؤ على حضور جنازته أي من أقاربه أو أصدقائه بمن فيهم صديقه عبدالله زكريا الأنصاري، الذي نقل عن العسكر قوله له مراراً «لو كنتُ صاحب جاه أو مال فسيأتون إلى جنازتي بالطوابير، ولكنَّني لستُ كذلك، فلا أعتقد أنَّ أحداً سيحضر جنازتي، وأنتَ منهم يا عبدالله».
قلنا، إن فهد العسكر، بفضل مطالعاته ونهمه، نبغ في الشعر وكتابة القصائد في وقت مبكر من حياته، وبرز في وقت لم يكن في الكويت منافسون له، كما أن زيارته آنذاك للبصرة، التي كانت وقتها تزود الكويت بالماء والغذاء والكتب والمجلات، أذكت في خاطره الشعري شعلة التمرد والشكوى والضيق بوطنه ومجتمعه، اللذين ضاقا بدورهما به وبآرائه. ونجد تجليات ذلك في قصيدة فرّغ فيها كل همه، معتبراً وطنه سجناً لابن البلد وفردوساً للغريب، قائلاً:
ما راع مثل الليث يؤسر ** وابن آوى في العرين
والبلبل الغريد يهـــوي ** والغراب على الغصون.
الخروج إلى السعودية
وهكذا قرر أن يخرج من الكويت إلى بلد أجداده المملكة العربية السعودية، ومهّد لذلك بنظم قصيدة امتدح فيها الملك عبدالعزيز آل سعود (تولى غناءها وتلحينها المطرب الكويتي عبداللطيف الكويتي)، وأرسلها إلى الملك عن طريق وكيل جلالته في الكويت الحاج عبدالله بن حمد النفيسي. وكان العسكر منذ تركه الدراسة ينظم القصائد الوطنية وغيرها وينشرها في مجلة «البعثة» الكويتية وبعض الجرائد العراقية والبحرينية، ما جعل قصائده منتشرة يسمع بها الناس داخل بلده وخارجها. وفي هذا السياق ذكر عبدالله خلف في صحيفة الوطن الكويتية (21/2/2013)، أن شاعرنا كان معجباً بالملك عبدالعزيز ويتمنى لقاءه لأنه فرض الأمن على كل طرق المملكة المتصلة بدول الجوار، وأخضع القبائل المتناحرة وأوقف حروبها وغزواتها، وغيّر الخريطة الاجتماعية في المنطقة. ولم يطُل انتظاره بعد أن قرأ الملك قصيدته التي أشادت بشجاعته، فدعاه لزيارة الرياض. وعليه سافر العسكر إلى هناك عن طريق البحرين التي حل فيها ضيفاً على حكامها من آل خليفة الكرام، ومن البحرين انتقل إلى الأحساء، حيث استضافه أميرها عبدالله بن جلوي. أما في الرياض، فقد أكرمه الملك عبدالعزيز وعهد إليه تدريس ابنه الأمير محمد، الذي كان وقتذاك يقيم في جنوب المملكة بالقرب من الحدود اليمنية، وتعيينه كاتباً في ديوان سموه. لكن يبدو أن الرجل ضاق بالسعودية على سعتها.
يقول عبدالله زكريا الأنصاري، في كتابه عنه بهذا الخصوص ما مفاده، أن العسكر خاف من الحياة في الصحراء السعودية الجنوبية ومما كان يدور فيها آنذاك من مناوشات وتوترات، واشتاق إلى حياة المدن التي تعوّدها فاستأذن الأمير محمد بن عبدالعزيز للعودة من حيث أتى. وبالفعل رجع إلى الكويت بعد أن حصل على تكريم وتشريف الملك عبدالعزيز.
صدق التعبير ودقة الأحاسيس
كتب الكثيرون عن شعره، فوجدوا فيه صدق التعبير ودقة الأحاسيس عن اللوعة والغربة والأفكار الجريئة والحلم بوطن ومجتمع جديدين خاليين من الخرافات والتقاليد المعيقة للانفتاح والتغيير، كما وجدوا فيه عمق السبك والحبك، مع الشعور الحاد والعاطفة الجياشة والذكاء الثاقب ومتانة اللغة وحسن التصوير وبساطة السرد. فقد كان كفيف البصر لكنه متقد ونافذ البصيرة. ولعل أكبر دليل على علو كعبه في ميدان الشعر أنه فاز في المسابقة الشعرية التي نظمتها إذاعة لندن سنة 1945، عن قصيدة وصف فيها الحنين إلى الوطن بأسلوب جميل، فعُدّ بذلك أول كويتي يفوز بجائزة أدبية.
غير أن البعض أخذ عليه عدم اهتمامه بجمع ونشر نتاجه من جهة، وزهده في نشر بعض قصائده من جهة أخرى، حيث علل شاعرنا هذا باحتوائها على ما قد يسيء لبعض الناس ورغبته في عدم إثارة خواطرهم، وأنه «سيتركها للزمن يفعل بها ما يشاء»، بحسب قول صديقه الأنصاري. ولا شك أن هذا الزهد ــ معطوفاً على ظروفه الشخصية ــ تسبب في تأخر مكانته إعلامياً وثقافياً عن الطليعة الشعرية العربية، وأعاق ظهوره في المشهد الثقافي العربي كما يجب، خصوصاً أنه كان يعيش في بيئة كويت ما قبل النفط بكل مظاهر انغلاقها مقارنة بالبيئات العربية الأخرى المنفتحة.
أما البعض الآخر فأخذ عليه طغيان الشك على نتاجه الأدبي، متناسياً أن الشك هو ملهم الفلاسفة الأول، وأن العسكر اعترف بنفسه أن الشك أساس حياته ومدارها ومحدد سلوكه وتصرفاته، علماً بأن صديقه وملازمه الأديب الكويتي الراحل عبدالرزاق البصير، كتب عن هذا في مقاله المعنون «من شعراء الكويت: فهد العسكر» في العدد 71 من مجلة العربي الصادر في عام 1964 قائلاً «تبقى قضية سلوكه الغريب، فإني أرى أن كثيراً من الشعراء والقصاصين الموهوبين لا بد أن تكون فيهم هذه العادات الغريبة». وقد ربط الدكتور عادل أحمد الزيد في القبس الثقافي (29/12/2020) بين ما قاله البصير وما قالته الطبيبة النفسية «كاي ردفيلد جاميسون» في كتابها Touched with Fire، من أن المرض النفسي كالاكتئاب وما يحدثه من آلام وجدانية تحث أصحاب المواهب الأدبية على التعبير عنها بأساليب إبداعية لا يمكن أن يصل إليها هؤلاء من دون أن تعتصرهم تلك الآلام.
والبعض الثالث، مثل الدكتورة نورية الرومي، التي لئن وصفته ــ خلال أمسية ثقافية أقامتها رابطة الأدباء الكويتيين في أبريل 2017 ــ بـ«رائد التنوير ومنصف المرأة، الذي لم يفهمه مجتمعه فتعرض للتعذيب»، وأشادت بموهبته الشعرية ووطنيته وبقصائده المتميزة بجمال اللغة والرمزيات، إلا أنها في كتابها «الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطور»، أخذت على الشاعر تركيزه في كل قصائده على الشكوى والتبرم والقلق الوجداني، واصطباغ أعماله بالدموع والبكاء والعويل والصراخ والضجيج والاحتجاج وما يتصل بها من معانٍ ومفردات، فصار ذلك ظاهرة طاغية في شعره. وكعادة العرب الذين ينسون أعلامهم في حياتهم ويتذكرونهم ويكرمونهم بعد مماتهم، تمّ تكريم العسكر بعد سنوات طويلة من رحيله، فأصدر البريد الكويتي عام 2009 طابعاً تذكارياً يحمل صورته واسمه، وأطلقت وزارة التربية اسمه على مدرسة ابتدائية، وصنع الفنان التشكيلي سامي محمد تمثالاً نصفياً له وضعه في مدرسة فهد العسكر الابتدائية، وقام التلفزيون الكويتي في عام 1979 بتصوير مسلسل قصير لتوثيق حياته من ثلاث حلقات، وبادرت مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بإنشاء جائزة شعرية باسمه في سنة 2001 بالتعاون مع رابطة الأدباء الكويتيين. كما صدرت مؤلفات جديدة عنه ومنها كتاب «معصية فهد العسكر ــ الوجودية في الوعي الكويتي»، للكاتب والباحث عقيل يوسف عيدان، الصادر عن دار العين القاهرية عام 2013.
[ad_2]
Source link