[ad_1]
كاتب قدير، وله جولاته في العمود اليومي، والأسبوعي، يكتب عن عالم الاجتماع كما يكتب في الأدب والشعر، متعمّق بارع بالمتنبي، ولا تملّ معه النقاش حول معارك المتنبي وصولاته وجولاته، إضافةً إلى أن تعليمه الشرعي، ثم دراسته في أمريكا، وإدارته أقساماً مهمة في مجموعة قنوات MBC، ومساهمته في تأسيس قناة «العربية» وموقعها على الإنترنت، ثم إدارته قناة «العربية»، فضلاً عن الاستشارات الحيوية التي قدمها؛ جعلت اسمه رقماً صعباً في عالم الإعلام العربي.
هنا بعض الأسئلة التي حاولنا من خلالها الربط بينه وبين جمهوره وقرائه في عالمٍ حيوي وحيّ، وبظرفٍ تعيش فيه السعودية أعظم انتقالاتها التنويرية والتنموية، فإلى الحوار:
• هل يعني لك العمر أو تقدمه أي شيء قرب الـ50؟ أم تعتبره مجرد رقم عادي؟
•• سأكذب عليك لو قلت لك إني اخترت على الدوام طرفاً من الطرفين المتناقضين الواردين في سؤالك! وأعترف أني تضعضعت بين الخيارين، أميل ساعة للخيار الأول، ثم أجد نفسي فجأة وقد دخلت في حدود الثاني وأنخت فيه ركابي. فترة التشويش هذه اجتاحتني، خصوصاً عندما دنت مني الخمسون، ويبدو أني أنا الذي دنوت منها، فهي مقيمة تنتظر، ما أقام عسيبُ. في وقت آخر أجدني -ودون أن أكون خاضعاً لتوجيه أفكاري- مقتنعاً تماماً بالإحساس الذي لازمني طوال 49 عاماً وشهرين، وهو أن السؤال عن العمر، يبدو لي من لغو الحديث. لا أطلبه ولا أرغبه،
كما لا يقلقني أو يزعجني، في الوقت ذاته. لكني شخصياً، لا أفكر أن استخدم اللغو في تعاملي مع أحد، ولو فعلت لكنت كمن يرتدي ثوب ابنه أو ابنته، ليَظهر بجلاء ألَّا تناسق في الأطوال والأحجام، ولا تناسب في الأفكار. ويَحسُن بي أن ألفت الذهن لملاحظة مهمة، وهي أن أكثر موضوعٍ كتب فيه العرب؛ شعراً، ونثراً، هو حلول الشيب، وتَصَرُّم الشباب، وهذه الكثرة تعكس حقيقةً تشبه الإجماع، ولا تجمع الأمة على باطل!
لكن الذين اجتمعوا على الكتابة في الشيب، لم يتفقوا على دوافع الكتابة عنه، فقسمٌ أفاقه الشيب من سُبات الصبا، وطيش الشباب الذي يُنسِيك غيره، ففزع من الخبر، وجفل من غزو البياض سواد الشعر. وقسمٌ استخدموا هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية، للتحذير من الاغترار بدوام النشاط وديمومة القوة، وهما رفيقا المرء معظم عمره، لكنهما لا يرحلان وداعاً، بل يختفيان على حين غِرّةٍ، اختطافاً.
خذ مثلاً، إشارة الفرزدق إلى معركة الشيب والشباب، التي لا يفوز فيها دوماً غير الأول، بقوله:
إذا نازلَ الشيبُ الشبابَ فأصلَتَا *** بسَيفَيهِمَا، فَالشَيبُ لا بُدَّ غَالِبُه
فيا خَيرَ مَهزومٍ ويا شَرَ هَازِمٍ *** إِذا الشيبُ وَافَتْ للشبابِ كَتائِبُه
ولَيسَ شَبابٌ بعدَ شَيبٍ بِراجِعٍ *** مَدَى الدَهرِ حَتّى يُرجِعُ الدُرَّ حَالِبُه
ويبدعُ المَعَرِّي في التعاطي مع لوني الشيب والشباب، وانقلاب اللون إذا خاتلا المرء، فيقول:
تَعَمَمَ رَاسِي بِالمَشِيبِ فَساءَنِي *** ومَا سَرَّنِي تَفتِيحُ نُورِ بَياضِهِ
وقد أَبصَرَتْ عَينِي خُطُوبَاً كَثِيرَةً *** فلَمْ أَرَ خَطبَاً أَسوَداً كَبَيَاضِهِ
وممن نَحا بالثناء على الشيب، الخليفة المستنجد بالله العباسي (ت 566هـ)، وأبياته شهيرة، قليلٌ من يعرف قائلها، فيقول:
عَيَّرَتنِي بِالشيبِ وَهوَ وَقَارُ *** لَيتَهَا عَيَّرَتْ بِمَا هُوَ عَارُ
إن تَكُن شَابَتِ الذَوَائِبُ مِنِّي *** فَالليالِي تُزِيِنُهَا الأَقمَارُ
واشتهرت بعد أن غنّاها ناظم الغزالي، فسارت على الألسن.
الناس متفقون على الانفتاح
• تجولتَ في كثر من المدن، ربما في معظم مناطق العالم الرئيسية.. ماذا رأيت؟
•• لا أزعم أن مشاهداتي في هذه المدن ستصنع العَجَلَة، والأكيد أن الكثيرين شاهدوا ما شاهدت وأكثر مما شاهدت، لكني سأجيبك، فربما شاهد غيري شيئاً، لم يلفت نظري، وبالتالي قد لا تكون مشاهداتي الصورة البصرية الأكثر إدهاشاً له بمقدار ما يبدو لنا حجم الاختلاف، في العادات والطبائع والتقاليد، شاسعاً بين شعوب الأرض، إلا أن الجامع المشترك بينهم متشابه حدَّ التطابق؛ فالبشر في الشرق والغرب والشمال والجنوب يألفون ويؤلفون، ويسعون في مصالح حياتهم؛ تحقيقاً لما يستطيعون من رغد، وطيبِ عيشٍ، ورفاه. إنهم يسعون لحياةٍ مستقرةٍ آمنةٍ هانئة، وما يريدونه لأنفسهم، غالباً يتمنونه لغيرهم.
معظم الشعوب التي تعيش في مناطق داخلية، تجفل من الغريب، حتى يثبت لها أنه لا يريد بها شراً فتطمئن له، ويبادر الذين يعيشون في الساحل الآخر بطرفٍ من الود، لما اعتادوا من تردد غيرهم عليهم للتجارة والسياحة وغيرهما. ويعتبر ابن خلدون «الناس في السكينة سواء، فإن جاءت المحن تباينوا».
بسبب ما خاضته البشرية من تجارب قاسية، وحروب وحشية، وتعصب وإبادة، خلال التاريخ الإنساني، بات الغالب الأعظم من الناس اليوم، مقتنعين حدَّ اليقين، بضرورة التسامح، والانفتاح على الآخر، وقبول المختلف، وأصبح كل البشر يرفضون بشدة ممارسات العنف، وخطابات الكراهية، وأشكال التحريض على الآخر.
الترحُّل بعين مبصرة في بلاد الدنيا وبين شعوب الأرض، مصدرٌ من أثرى مصادر توسيع المدارك، وفتح الآفاق، وتراكم المعارف. رصد التباينات في هذه الرحلات، فَنٌّ من فنون التأريخ الجغرافي، مُوغلٌ في القدم، مستمرٌ في التطور، وأتمنى أن أحيط منه ولو بالقليل، لكني أعشقه وأستمتع به كثيراً.
عطاء الصحافة.. هيهات!
• الصحافة مهنة مشهود لك بالإبداع فيها على مستوى الكتابة الصحفية والمقالة، هل أسست لتجربة تركي في العمل عموماً؟
•• أمر الصحافة في تقلُّبِها واضطرابها عجيب، وعلاقتها بالعاملين في بلاطها غريب. إنها أمٌ اكتفت من واجباتها مع أطفالها بالولادة، وسلكت بمقاطعتهم أسوأ طريق ومنهج المستهتر الصفيق. ولو خُيِرَت لما حَبَلَت ولَا وَضَعَت، وقالت: من يرعانا يرعاهم، والله يكلانا ويكلاهم. وتستغربُ من قلبِ أمٍّ استبدلت ركناً ركيناً من طباع الوالدة؛ عطفاً وحناناً ورعاية وعناية ومحبة، استبدلت كل هذه الخصال المتجذرة في سلوك المليارات من أمهات الدنيا، وإن اختلفت أشكالهن، وتباينت ثقافاتهن، بالصدود، والنكران، والجحود، والنسيان! لا تسل عن مرارات اليُتم، وغُصَصِه، وجِراحاتِه، فكيف بآلام يُتْمك، وأنت ترى أمك اختارت لك أن تكون يتيماً دون أن يفجعها موت، أو يعاجلها أجل؟ لعمري أنه مُضاعِفٌ للمصائب، ينكأ الجراح تلو الجِراح، مُخرِس الألسن الفصاح.
طبع الأمهات يقوم على العطاء، والبذل، والهبات، وإن سألت عن عطاء الصحافة، جوابك: هيهات… هيهات! أما لسانها فلا يفتأ عن سؤالك: هات! لتحجز لك مقعداً في هذا العالم، عليك أن تعطي الصحافة، وإياك أن تشحَّ أو تقبض، كُلَّكَ، بما تعنيه (هذه الكل) من معانٍ. كُلّ وقتك؛ أصله وهامشه، وكل اهتمامك، دون أن يشاركها فيه أحد أو شيء، وكل جهدك، واجتهادك، وكل مبادراتك. يجب أن تحتلك الصحافة احتلالاً، على أن يكون احتلالاً مرحباً به منك، تستيقظ وقد بدأت يومك بما يمكن أن يكون شكل الجديد، الذي ستقدمه، ثم تبدأ بالانتقال من التفكير إلى العمل، فتشرع في صناعة هذا الجديد، بنفسك، أو مع غيرك من الزملاء، بحسب موقعك، وعندما تمخر عباب الشوارع، فعليك أن تُحَوِّل الوجوه والمشاهد وحركة الناس أو سكونهم إلى عناصر في قصصك الصحفية، تستند إليها في الكتابة، والسؤال، والابتكار، والاقتراح، والنقاش. وقبل أن تخلد إلى فراشك لا بدَّ أن تراجع يومك بمنظار صحفي، فتضع يدك على ما كان يجب أن تفعله ولم تفعله، وما كان يجب أن تضيف ولم تُضف، وما كان يجب أن تحذف ولم تحذف. ثم تنام لتجد نفسك في الغالب تحلم بالصنعة ذاتها، أو بموضوعات تليق بها، وهكذا…
على الصعيد الشخصي، أزعم أني أحببت الصحافة حباً تملكت فيه جوارحي، وذهبت أبذل كل جهد مستمتعاً بهذا الحب، منذ بداية ممارستها في 1989، وعمري حينها 16 عاماً، حيث كنت أعود للمنزل من مدرستي، وكنت في المرحلة الثانوية، وألتقط لقمة عُجلى، ثم أسارع إلى مقر الصحيفة التي كنت أعمل بها، وأبقى منذ الثالثة عصراً حتى منتصف الليل أو قبله بقليل. وبقي شغفي بهذه المهنة، مستمراً مع تطور المراحل، ولما تفرغت للصحافة في 1994، ما خبا نهمي، ولا ضعف إقبالي، ولا توانى إصراري، ولا ضعفت همتي. لم أبدأ بكتابة المقال إلا بعد أكثر من 20 عاماً من ممارسة فنون العمل الصحفي؛ من خبر، وتقرير، وحوار، وقصة صحفية. ثمة ملمح مهم هنا، وهو أن المقال، ليس من الفنون الصحفية التي يمارسها الصحفي في بداياته، فتأسيس المهنة بإتقان الأشكال الصحفية المختلفة، مهم جداً، وأحسب أن ذلك يجب قبل الولوج إلى عالم المقالة، وهو خلاف ما يحدث اليوم. علماً بأن كثيراً من الصحفيين المهرة، لم يكتبوا المقال أبداً، ولم يقلل هذا لهم من شأن. أظن من حسن حظي، أني خلال رحلتي الصحفية، عملت بالصحف الورقية، والمجلات الأسبوعية، والإذاعة، والتلفزيون، والصحافة الإلكترونية، وأظن أن هذا لم يُتح للكثيرين. وفي ما يتعلق بالمقالة، كتبت المقالة اليومية طيلة سبع سنوات، وكتبت ثلاثة أيام في الأسبوع سنوات مثلها، وكتبت المقالة الأسبوعية 20 عاماً. وفي كل ما مضى، لا أزعم أني أسست منهجاً خاصاً بي، لكنني التزمت بأصول وأدوات المنهج المهني الاحترافي، في ما قدمته من أعمال. وأعتقد أن تحليل إنتاج صحفي ما، يكون على يد غيره، لا من خلاله هو.
• تمر على أكثر من عاصمة في يوم أو شبه يوم برحلات عديدة، هل كان كل هذا الترحال والسكن بالسماء يعني بعمق تركي أي شيء من المتعة والسعادة؟
•• مررتُ بأوقات لا يمضي أسبوعي دون أن أركب الطائرة مرتين أو ثلاثاً، وبأوقات تمر الشهور دون سفر، والحقيقة أنّي استمتعت بهذه وتلك. لم يكن السفر لي غاية، ولا ضجرت من كثرته، كنت أسعد بساعات قربي من السماء، وأَفِرُ إليها من ازدحام المهمات على الأرض، منشغلاً بكتابة أو قراءة أو تأمل. وإذا نزلت ببلد حاولت أن أعُبَّ ما استطعت، من عادات أهلها، ساعياً للإلمام -ولو بالوجيز- من واقعها وتاريخها، ومنادمة أهلها، ومجالستهم. وبمقدار بلوغ الهدف، أصيب من السعادة.
لقد استفدت كثيراً من السفر، في إتمام المشاريع التي كانت تحتاج إلى بعض الانقطاع والتفرُّغ، وخصوصاً أنك تتخلص خلال السفر من معظم الواجبات الاجتماعية.
• سريع الحركة، سريع الإنجاز، وصارم بالعمل، كيف كانت تجربتك مع هذه التحديات في مهماتك التي تسلمتها وهي شديدة التعقيد؟
•• العصر الذي نعيشه في عالمنا، وضمن تاريخ البشرية، أبرز سماته، التغيير السريع والمتواصل. وفي التفصيل، فإن العقدين الماضيين، كان التغيير فيهما سريعاً لدرجة يصعب إدراكها، ولعلي لا أخطئ إن قلت: ربما يصعب اللحاق بسرعة هذا التغيير. التغيير في الأفكار، والرؤى، والمواقف، والتكتلات، والأيديولوجيات. خريطة العالم لم تتوقف عن التغيُّر، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، فكل يوم تنشأ دولة، ويظهر إقليم، وتظهر مجموعة، ويجتمع قوم على فكرة، ثم يتحاربون عليها بعد هنيهة. الصراعات العالمية تتجدد، وتتولد، وتتغير الخصوم تبعاً لتغيرات الجغرافيا والسياسة، وعلى مدى زمن يسير. منذ الأزل كانت الاختراعات تغيّر العالم، وتقلب قواعد الاقتصاد، وتحقق للإنسان مزيداً من الرفاهية، وجودة العيش، غير أن تسارع المنتجات التكنولوجية، وخصوصاً في ما يتعلق بالتطبيقات الذكية، جعل ما يظهر أول اليوم، مُعرضاً لوصمِهِ بالقديم آخر اليوم ذاته. ناهيك عن آثار ذلك على السياسة والثقافة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، وخلال هذه الأوقات القصار، يقفز أُناس إلى أعلى سلم الثراء الفاحش، ويهبط آخرون في قاع السلم، ومثله يحدث في صناعة التأثير!
بات من مقتضيات هذا الواقع، التكيُّف معه باعتماد نظام السرعة في العمل، كي تكون جزءاً من المعادلة، ولا تقذفك عجلة الحياة السريعة على قارعة الماضي. هل تستطيع أن تقوم بعمل لا يتصف بالسرعة، في عالم لا شعار له إلا السرعة؟ تستطيع، لكنك ستجد بعد أن تُنجزه على مهلك، أنه بات لزمن غير الزمان الذي أتممته فيه.
كيف تُدْميك الجراح في معركة بلا راية ؟
• لكل شخص معاركه بالحياة يخوضها بنفسه، وغالباً ما يكون منفرداً، كيف واجه الدخيل هذه الصعوبات؟
•• الحياة كلها معركة يا عزيزي! كما أننا نخوض كثيراً من المعارك، خلال واجباتنا اليومية، دون أن ندرك أننا في وسط معركة.
ثمة نوعٌ آخر من المعارك، لا تعرف خصمكَ فيها؛ نجاحك، وتميُّزك، وحُسن ظنِّك أحياناً، تخلق لك خصوماً، تجهلُ أسباب شنِّهم الحروب ضدك، ولا تعلم غايتهم من عداوتك!
أظن أن أعظم معركة يجدر بالعاقل خوضها، هي معركته مع نفسه، تلك التي يخوضها كل وقت، بُغيَةَ نيل ما يليق به من عادات وسجايا ومنازل، ويَشِمُ عما لا يليق به من سيئ الخصال، ورديء الفِعال، ودنيء المراتب. كلما انغمسنا في هذه المعارك العالية، التي تزيد الشأن وترفع المكان، لم يتسنَّ لنا وقت، لننشغل بالحروب الرخيصة والمعارك البالية. معركتي الأساسية تكمن في محاولة تحسين ما أقدمه، وما يعوق هدفي سأختلف معه، فإن أراد الخلاف معركة، فسأتنحى… حتى يكون لا بدَّ مما ليس منه بُدُ.
لكني لا أرى ما يستحق أن تُخدش فيه، فكيف بأن تَدميك الجراح في معركة بلا راية، أو حرب قُوْتُهَا التحاسد، وإنْ أُلبِسَت شعاراتٍ غير ذلك!
في الإطار ذاته، لا بد أن نقف في موضوع التحديات، عند رأي أشهر مؤرخي القرن الـ20؛ أرنولد جوزيف توينبي، المؤرخ البريطاني، (ت 1975)، الذى اعتبر التحديات عاملاً جوهرياً في نشوء الحضارات، منطلقاً من عبارته «كلما عَظُم التحدي اشتدّ الحافز». لا شك أن أبرز مُحَرِّض لصناعة الحضارة، هو خطورة التحديات، وضخامتها، وإن قال البعض إن الحضارة الإسلامية نشأت من فكرة، لا من ضغط التحديات، فإن من الممكن اعتبار الفكرة ذاتها، كانت تحمل في طيّاتها تحدياً حقيقياً، فنشر الحضارة الإسلامية، وتوسع دولتها، ومواصلة ما فعله الأسلاف، والزيادة على ما حققوه، كانت تحدياً بحد ذاته، يُضاف إلى دافع الفكرة. كما أن ثمة عصوراً إسلامية اجتمعت الفكرة فيها، إضافة إلى التحديات، ما كان يشكّل استجابة حضارية لعاملين منفصلين، يتداخلان بحسب الظرف الزماني والمكاني، ويتمازجان، ليصبحا دافعاً مستقلاً موحداً، وإن لم يناسب واقع الحال، ما طرحته النظرية التي تميل إلى واحد من الدافعين، فإما الفكرة، وإما التحدي، على أن اجتماع الدافعين، لا ينقص من اكتمال تشكيلات كل منهما على حدة من جانب، ولا من امتزاجهما في دافع أصيل، من جهة أخرى.
الانفتاح على الطعام علم!
• يعرف الجميع أنك متذوق جيد للطعام، وتختار المطاعم التي تعجبك بعناية، كيف تصف تجربتك هذه؟
•• سُئِلتُ مرةً: هل تعيش لتأكل، أم تأكل لتعيش؟ فأجبت: آكل لأستمتع. أرى أن الطعام من نعم الله علينا، ومن مظاهر تقدير النعمة -بعد حمدها- معرفة مكامن الحسن فيها. والانفتاح على أصناف الأطعمة وأنواعها، عِلمٌ، ومعرفة، وثقافة، تزيد من صِلاتك الإنسانية، وتوسِّع آفاقك ومعارفك.
مع تزايد أسفاري، بسبب عملي في الأساس، ولجتُ هذه العوالم، وتعرفت في ريعان الشباب على العديد من الوسائل التي تصنِّف المطاعم إلى أصناف، بالنظر إلى جودة ما تقدمه من وجبات، وكنت لا أسافر دون قائمة طويلة من المطاعم المُوصى بها، وأنواع من الأطباق المميزة، وعندما أصل مكان السفر، أبدأ بتفقّد تلك المطاعم، وغيرها مما يقترحه أهل البلد، فأثبت في القائمة ما يعجبني، وأزيد فيها وأمحو، علماً بأن هذه القوائم تحتاج لمواصلة التحديث، فالتغيّر في قطاع المطاعم سمة من سماته. الحقيقة أن الاستمتاع بأطايب الطعام، من مباهج الحياة، ومن نعم الدنيا التلذُّذ بأطايب ما يقدمه الطُّهاة. مع ملاحظة أن مُتعتي بالمميز من الطعام، لا تجعلني أستنكف طعاماً، ولا أقلل من قيمته، فتقدير قيمة الفاخر من الأشياء، لا يعني عدم التعاطي مع غيرها. وأظن وأرجو ألا يكون ظني إثماً، أنّ الانفتاح على أطعمة الشعوب، وعدم الاستنكاف عن التجربة، يفتح للإنسان أبواباً لم تكن لتجعله يُقبِل على أصنافٍ من الطعام، قد تكون مفضلة محبوبة لديه، ولا أدلَّ على ذلك من تجربة انتشار الأكل الياباني؛ وأخص السوشي والساشيمي، اللذين اجتاحا العالم في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، بداية بغرب أمريكا، ورغم صعوبة البدايات، بات اليوم اليوم طعاماً عالمياً لا تخلو منه مدينة، ويُقدّم بمختلف درجاته، فمن النوعية التي تكون في متناول الناس، صعوداً حتى يصل إلى فئة لا يستطيع يتناولها إلا الأغنياء؛ لجودتها، ورُقي أنواعها، وارتفاع سعرها… وهكذا.
إِذا كُنتَ تَبنِيهِ وغيرك يَهدِمُ
عن الإعلام والديبلوماسية والعمل الرسمي وتجاربها يقول الدخيل: لو لم تُضف كل مرحلة إلى الأخرى، لكان هذا ضرباً من العبث الذي لا معنى له. إذا كان الموقف الذي تشهده في مقهى، أو سوق، أو عبر جدال ثقافي، أو نقاش معرفي، لم يُضف لك شيئاً، فهذه مصيبة، تقتضي أن يُكَبَّرَ عليك أربعاً لوفاتك، لا قدر الله. يبقى أن استبطان هذه الإضافة، وتشرّبها، والاستفادة منها، تتعزز مع الأيام، وتزداد تراكماً مع الزمن، ومن يمُرُ في موقف صعب، لا يُفكر حال الموقف في ما أضافه له الموقف، أو ما تشربه من معرفة وتجربة، فهو مصدومٌ بالحادثة، مفجوع بمفاجأتها، وبعد أن تزول دهشة البداية، يستعيد العاقل، بشيء من روح التروي، ورواق التعلم، وصفاء التأمل، وهدوء ما بعد العاصفة، التفكر، في حالات الأرباح والخسائر، وقوائم الصواب والخطأ، وما يمكن أن يفعله ليكون الوضع أفضل، أو ما يبادر له ليوسع من رقعة النجاح، وما يجدر أن يتنازل عنه، ليخفف من الأثر السلبي، أو يعزز الجانب الإيجابي. هذه المراجعة تتم على مراحل؛ إحداها عاجلة وسريعة، والأخرى متأنية ومعمقة تستدعي وقتاً، وروية، وتبصراً، وتفكيراً يُقلب الأمور على كل الوجوه، متخلياً عن الكبرياء، نازلاً لدرجات تتوازى فيها قراراته، دون ترجيح لما اتخذه على ما يتخذه، لأن موضوعات الدرس والتفكير والتمحيص، يجب أن تعرض على مقاييس منطقية، لا على أحكام مسبقة. إنها عملية شاقة عسيرة، وطويلة، ولا يمكن أن تتم دون طرح مشاعر العنفوان والأنفة، أو مع الإصرار على صواب ما اتخذته سلفاً!
وعليه فمن المؤكد أن التجارب إذا لم تضف لبعضها بعضاً، فإن الخسارة العظمى ستكون لكل من لم يستطع أن يراكم كل تجربة على أختها، مستفيداً من الإيجابي، مبتعداً ما أمكنه عن السلبي. العاقل من أضاف البناء على البناء، وإلا وقع قول الشاعر:
متى يبلغ البنيانُ يوماً تمامَه *** إِذا كُنتَ تَبنِيهِ وغَيرَكَ يَهدِمُ
يمكن أن نبدل «غيرك» في البيت السابق لتكون «مثلُكَ».
المُقلل من قيمة الصبر غارقٌ في بحرٍ عميق
• الحيوية يستمدها تركي الدخيل على سبيل الصبر وتهيئة البيئة العملية بمن حوله؟ أم هي طبيعة لا بدَّ من تحريض الآخرين عليها؟
•• من النادر لمن أدرك أهمية الصبر في كل عمل عظيم، ومنجز جليل، أن ينتظر أن يحرضه غيره على الصبر. قد يساهم البعض في تحريضك، لكن الدافع الأساس، والحافز الأول، يجب أن يكون قناعتك العُظمى بأهمية الصبر وضرورته القصوى. إن أي عمل أو مشروع أو منجز، لا يكون الصبر لُبّه وأصله وساسه، سيتكسر عند أول صخرة، لا يتجاوزها إلا الصابرون.
الثابت الوحيد لكل مشاريع الناجحين في الدنيا، أياً كانت مشاريعهم من اختراعات، إلى ابتكارات، إلى أفكار غيرت البشرية، أو حتى غيرت أنفسهم ومن حولهم، هو الصبر، وليس غير الصبر، من ليس لديه استعداد للصبر، فليوصد أبواب مبتغاه، فللدنيا سنن، وللكون نظام، والصبر في مقدمة هذه السنن الكونية، بدليل ورود الصبر ومشتقاته 103 مرات في القرآن الكريم، وهو ما لم يحدث لأي كلمة غير الصبر! من لم يعرف أهمية الصبر، عاثرٌ أول الطريق، والمقلل من قيمة الصبر، غارق في بحر عميق.
الصبر يحمل معاني التميّز والإتقان والإحسان والجودة في أداء العمل. قل لي بربك: أي عمل يحقق شيئاً من نجاح، دون ما سبق؟
[ad_2]
Source link