[ad_1]
عبر نظارة سوداء وعصا يتكئ عليها وضحكة قوية مجلجلة، تتشكل ملامح صورة حميمة لكاتب استثنائي في تاريخ العرب، ليس فقط لكونه الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل بين مبدعي لغة الضاد، بل لأن رواياته ترسم صورة فاتنة في إبداعها، وصادمة في صدقها، تذوب فيها الخطوط الدقيقة بين عوالم الحقيقة والخيال.
إنه نجيب محفوظ الذي تستعيد، على امتداد شهر كامل، وزارة الثقافة المصرية أطياف ذكرى ميلاده الـ 111 عبر العديد من الفعاليات المختلفة التي حاول صناعها ألا تكون تقليدية. ومن أبرز تلك الفعاليات معرض «نجيب محفوظ بين الحارة والوظيفة والأصدقاء»، فضلاً عن ندوات منها «أحفاد نجيب محفوظ»، و«رحلة نجيب محفوظ السينمائية»، و«إني أرنو في رحاب نجيب محفوظ»، بمشاركة واسعة لمبدعين في الأدب والنقد والفن التشكيلي والسينما من مختلف الأجيال.
أديب نوبل الموظف
تبدو حارات «الثلاثية» وتفاصيل عمارتها، ومشربياتها الخشبية، وحتى أطياف المارين بها، وكأنها تشارك الاحتفال بذكرى جديدة لأديب نوبل، حيث تجتمع تلك الفضاءات المستلهمة من أعماله في عدد من اللوحات التشكيلية للمعرض الذي يستضيفه مركز الهناجر للفنون في الأوبرا المصرية.
«اللوحات تعكس تأثر هؤلاء الفنانين بأدب محفوظ وعالمه في الحارة المصرية، والأماكن التي ارتبط بها بشكل شخصي في القاهرة» كما يقول الكاتب الصحافي طارق الطاهر، وهو عضو «اللجنة العليا للإعداد لاحتفالية نجيب محفوظ».
وإلى جانب المعرض الفني، يحتوي المعرض على قسمين آخرين يضمان وثائق من السيرة الوظيفية لنجيب محفوظ، بالإضافة لعدد من الإهداءات التي تلقاها محفوظ من عدد من كبار المثقفين وأصدقائه من الكتّاب، والتي استعرضها طارق الطاهر في كتابيه «نجيب محفوظ بختم النسر»، و«بخط اليد وعلم الوصول: تاريخ جديد للسيرة المحفوظية».
يقول الطاهر: «الوثائق المعروضة تؤرخ لمسيرة محفوظ الوظيفية التي بدأت عام 1934، وانتهت في سنة 1971 لإحالته للتقاعد، خلال تلك الرحلة خاض الرجل رحلة تعتبر فريدة في الدولة المصرية، لأنه عمل في ثلاث وزارات؛ الأولى: المعارف عندما تم تعيينه كاتباً في الدولة المصرية، ثم انتقل للعمل في وزارة الأوقاف، وأخيراً وزارة الثقافة وتحديداً (مصلحة الفنون) عند تأسيسها وكان يرأسها في ذلك الوقت الكاتب الراحل يحيى حقي»، جاء ذلك في حديث له مع «الشرق الأوسط».
ويضيف الطاهر «تكمن أهمية تلك الوثائق في أننا نستطيع أن نستشف منها أموراً عدة حول علاقاته الوظيفية، والشخصيات التي تعامل معها، أحلامه وانكساراته، فقد كان موظفاً ملتزماً للغاية، وتشهد على ذلك التقارير الصادرة في حقه، علاوة على أن هذا الجانب انعكس في بعض أعماله مثل (المرايا) التي استلهم فيها حياة الوظيفة».
ولم تكن «المرايا» وحدها هي الانعكاس لعالم الوظيفة بما تمثله من حقيقة في حياة محفوظ، بل هي التي ربما ألهمت خياله بشخوصها، إذ تكرر الأمر مثلاً في رواية «حضرة المحترم» التي لم تبتعد عن أجواء الوظيفة وتشابكاتها المختلفة مع المجتمع.
وتظهر في المعرض إهداءات بخط يد كبار المثقفين التي احتفظ بها نجيب محفوظ في مكتبه، منها توقيعات لتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، ويوسف القعيد، وفتحي رضوان، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، وعلي الراعي ولويس عوض، و«تلك الإهداءات أقرب للرسائل، يجمع بينها التقدير لموهبة محفوظ الاستثنائية، إذ إنه من النادر أن تجتمع تلك الخطوط في معرض واحد، وتمثل بانوراما مفتوحة على سيرة محفوظ وأصدقائه»، حسب طارق الطاهر.
الحارة
ومن الوظيفة إلى الحارة الشعبية والتي «كانت مصدر إلهام شديد الثراء لكنها لم تتحوّل إلى قيد يمنعه من التطرق إلى بيئات أخرى» بحسب تقييم الكاتب الروائي يوسف القعيد الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «محفوظ الموُلود بحي الجمالية بمصر الفاطمية حيث العبق التاريخي والأجواء الروحانية والطبيعة الخاصة للسكان، تفتحت عيناه على أزقة صغيرة منها (زقاق المدق) الذي تحمل اسمه واحدة من أعذب رواياته على سبيل المثال، لكنه تطرق في الوقت نفسه إلى الأحياء الراقية في القاهرة والشواطئ والمقاهي في الإسكندرية ما جعل أعماله تتميز بالتنوع على مستوى الخلفيات المكانية، وإن ظلت البيئة الشعبية الأكثر حضوراً وتألقاً».
وكان القعيد أحد المقربين من عميد الرواية العربية على المستوى الإنساني، وعضواً دائماً في جلساته الأسبوعية، ومن هنا تكتسب شهادته أهمية إضافية، حيث يرى أن «محفوظ نجح في التعبير بصدق شديد وبراعة وصفية أخاذة عن الأحياء والأماكن الشعبية؛ مثل حي الحسين، ومقهى الفيشاوي حتى أن الزائر لتلك الأماكن يشعر بأنفاس الروائي الراحل لا تزال تتردد في جنباتها حتى الآن رغم رحيله عن عالمنا عام 2006».
كان محفوظ «يتمتع بذاكرة مدهشة لكنها تجلب عليه أحيانا الكثير من الحنين»، وعن ذلك يقول القعيد: «تجوّلت بصحبة عميد الرواية العربية، ومعنا الروائي الراحل جمال الغيطاني في الأماكن الشعبية التي ظهرت في رواياته حين كان لا يزال في مقدوره المشي على قدميه متكئاً على عصا قبل حادثة الاعتداء الغاشم عليه عام 1994، وكان محفوظ يعتصره الحنين والشجن وهو يقارن بين تلك الأماكن في طفولته، وما آلت إليه في شيخوخته، ويبدي ذاكرة قوية وهو يحكي لهما أدق التفاصيل في هذا السياق».
ولا يستطيع القعيد أن يتطرق إلى إرث محفوظ الأدبي والإنساني – كما يؤكد – دون الإشارة إلى فكرتين هما «التنظيم الصارم للوقت» و«الانضباط الشديد في المواعيد» باعتبارهما يشكلان مفتاحا مهما لفهم «العبقرية المحفوظية» على حد تعبيره، مشيراً إلى أنهم «كانوا يضبطون مواعيد الساعة على لحظة دخوله مقهى ريش في تمام الخامسة والنصف عصراً، حيث يبقى ثلاث ساعات بالضبط، لكن المذهل أنه كان يستشعر لحظة المغادرة دون أن ينظر في ساعته، حيث يلقي تحية الوداع ويمضي وحين ينظرون في الساعة يجدونها الثامنة والنصف تماماً».
علاقة خاصة مع الأصدقاء
يعتبر الكاتب الصحافي محمد الشاذلي أحد من اقتربوا بشدة من محفوظ، حتى أنه كان يخصه بالعديد من الحوارات الحصرية ويسمح له بزيارته في منزله بحي «العجوزة» في أي وقت، فضلا عن حضور جلساته الخاصة، وهو ما انعكس في الكتاب الذي صدر له مؤخراً «أيام مع نجيب محفوظ»، من موقعه كشاهد عيان.
كيف يرى الشاذلي قيمة الصداقة والأصدقاء في حياة صاحب «الثلاثية»؟ طرحت «الشرق الأوسط» السؤال عليه فأوضح أن «الصداقة ليست مجانية في حياة نجيب محفوظ، فهي أحد أهم مصادر متعته في الحياة، ولو أخذناها منذ صباه المبكر، فقد كان حريصاً عليها كحرصه على العيش بالطريقة التي يحبها. ولم يكن الأصدقاء يلتقون في جيله سوى في الشوارع والنواصي، وعلى ضفاف النيل وفي المقاهي، وألم الأديب الكبير بتلك الوسائل كافة».
ويكشف الشاذلي أن «محفوظ اعترف بتخوفه من أن يؤثر سحر الصداقة على انشغاله بالأدب، فما كان منه أن نظم علاقته بأصدقائه ذلك التنظيم المدهش الذي عرفناه عنه طوال الوقت، فكان الخميس مخصصا لشلة الأصدقاء التي أطلق عليها في البداية اسم (الدائرة المشؤومة)، ثم سماها الفنان الراحل أحمد مظهر فيما بعد (الحرافيش) بعد قراءة لكتاب تاريخ الجبرتي، وكان الدخول إلى تلك الشلة صعباً، ولا يتم إلا بحسابات دقيقة».
ويتوسع الشاذلي في شرح تفاصيل الصداقة المحفوظية من وجهة نظر أدبية فيقول: «أصدقاء الصبا في العباسية نجدهم في (الثلاثية) بوضوح، كما يمكن أن نجد شلة الحسين في رواية (خان الخليلي)، ولا بد أن يلاحظ قارئ محفوظ أن نماذج الصداقة والوظيفة في حياته شديدة التنوع، وكانت الصداقة والوظيفة أكبر مؤسستين أمدتاه بالكثير من شخصيات قصصه ورواياته».
وفيما يتعلق بالأجيال اللاحقة، «زادت مجموعات الصداقة عند محفوظ بشكل كبير خاصة بعد نوبل، لذا نظمها أيضاً وجعل لكل شلة شبه متجانسة يوماً في الأسبوع في مكان مختلف. وكان بعض النقاد يرون في المحيطين أو الأصدقاء الجدد لمحفوظ تسرية عن الكاتب الذي هرم، لكن محفوظ في تصوري كان يتكئ على هؤلاء في معرفة الأخبار والأحوال وحتى النكات الجديدة، ويطالع حراك المجتمع السياسي والاقتصادي»، على حد تعبير الشاذلي.
[ad_2]
Source link