[ad_1]
وعندما تخبو النقاط المضيئة في فضة الروح وتعلوها طبقة من الرتابة لا يعود بمقدور شيء أن يمحو ما علق بها، بيد أن قصيدة متأججة أو سرداً ملتهباً أو لوحة متقدة يمكن أن تعيدها براقةً ومشعة.
تمنحنا تلويحات الأغصان وإيماءات البتلات ومباهج الطبيعة رتباً عالية من البهجة وهي تشبه إلى حد بعيد ذلك السحر الذي يجتذبنا نحو عمل أدبي أو فني فريد والمتعة والدهشة اللتين نحصل عليهما إبان وقوفنا إزاء لوحة تشكيلية أو قراءتنا نصاً إبداعياً أو سماعنا مقطوعة موسيقية تلتزم الضوابط الأدبية وسمو مقاصدها هي ذاتها التي تنتابنا إبان السير تحت المطر أو الظفر بثناء مستحق وما نفعله إزاء تلك المتع الصغيرة هو أننا نفسح لها الطريق نحو شغفنا كي تشبع نهمه وترضي آماله وهذه بحد ذاتها لذة لا تضاهى ننساق نحوها قسراً، ناهيك عما ننتظر الظفر به على الصعيدين المعرفي والثقافي من غنائم ثمينة.
ففي حالات لا حصر لها لم يفتأ الأدب يشعرنا بأثره في تشكيل الوعي واتساعه فردياً كان أو جمعياً ولم يزل يذكّرنا في مناسبات عديدة بدوره في التنشئة الضمنية من خلال أجناسه المتنوعة «فالرواية أداة معرفة» كما يرى الروائي السعودي «عبدالرحمن منيف» صاحب الرواية الرائدة «شرق المتوسط» و«الفن شكل من أشكال العلاج» كما يقول الفيلسوف اليوناني «أرسطو»، والآداب والفنون عموماً تنتهج التعليم عن طريق الإمتاع وهي لا تكل من استنبات القصص التي تؤكد أيضاً أن مآلات التشافي بها من هزائمنا وانكساراتنا على الصعيد النفسي كانت مبهجةً على الدوام إضافة إلى ما تسديه إلينا من صنائع معرفية، بيد أن ثمة ما قد يفسد ذلك الأثر البديع للتلاقي الفاتن بين الأعمال الماتعة ومخيلة القارئ ليحول الحيز المضيء في أعماقنا إلى عتمة باردة ومربكة.
ويعزى ذلك إلى أسباب عدة من بينها الأعمال المؤدلجة التي تعنى بتوجيه القارئ نحو قناعات معينة من خلال التأثير أولاً ومن ثم جذب العاطفة وإقناع المتلقي بأفكار وقيم معينة لكيان ما، وبطبيعة الحال فعدا عن أن هذا النوع ليس معنياً بالآداب والفنون بوصفها أداة معرفية فهو لا يحقق المتعة المرجوة ليس لأنه يتخذ من الفنون والآداب وسيلة لصناعة النفوذ وإضفاء صورة حسنة على كيان ما فحسب، ولا لأنه يصار به عملياً لأن يكون جزءاً من آلة إعلامية لتنضوي تحت عباءة القوة الناعمة التي ابتكرها الأمريكي «جوزيف ناي» وتطورت في ما بعد لتشمل اللقاءات الثقافية وصناعة السينما، بل لأن نتاجه غالباً ما يأتي منطفئاً وركيكاً ومفتقراً إلى لغة هامة وصور جاذبة ولذلك فهو لا يسترعي اهتمام المتلقي كثيراً.
بيد أن تحقيق مصلحة سياسية أو اقتصادية لأمة أو شعب ما أمر يمكن تفهمه وإن بدا مخادعةً في نظر البعض، كما أنه يمكن أن يكون محقاً وعادلاً، وافتراض وجود غاية جمعية نبيلة قد يصعد بالعمل الأدبي أو الفني إلى مستوى عالٍ من الإبداع يتضاءل أمامه تحفظنا على إقحام الآداب والفنون في مجالات شديدة الضراوة كالسياسة، لاسيما أن ثمة الكثير من الأعمال التي سلّطت الضوء على قضايا سياسية عادلة كانت على قدر عالٍ من الإبداع والجودة كما هي لوحة «الغرنيكا» الشهيرة للفنان الإسباني «بابلو بيكاسو» بوصفها توثيقاً للحدث وتعبيراً عن المأساة التي خلفها قصف الطائرات التابعة لجيش الكندور الألماني لمدينة الغرنيكا في الباسك وكذلك هي الرسومات الكاريكاتورية التي أبدعها الرسام الفلسطيني «ناجي العلي» وسلط من خلالها الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني والظلم والقهر اللذين تمارسهما عليه الآلة العسكرية الإسرائيلية وكما هي أيضاً رواية «الحرب والسلام» للروائي الروسي العظيم «ليو تولستوي» التي تناولت الغزو الفرنسي لروسيا وأثر العهد المظلم لبونابرت نابليون على الحكم القيصري، ورواية «كوخ العم توم» أيضاً للكاتبة والناشطة الأمريكية «هارييت ستو» التي تحدثت عن قضية تحرير العبيد وأسهمت في إلغاء الرق في أمريكا.
بيد أن ثمة بوناً شاسعاً بين غايات سامية كآنفة الذكر وبين الشوفينية الأدبية من حيث أثر كل منهما على العملية الإبداعية فالشوفينية بوصفها أحد سياقات العنصرية الأشد ضراوة في التاريخ الإنساني والتي ترتبط عادةً بالهياكل السياسية لكيان ما ارتباطاً وطيداً وتتعمق جذورها وتتشابك في تاريخه ويتصاعد خطابها الشعوبي مع صعود التيارات اليمينية ووصولها إلى السلطة إذ تهيئ لها مناخاً موائماً للنمو فتربو وتتكاثر؛ أمر يصعب اقترانه بالإبداع، بل إن بينهما من النفور ما يفسد متعة المتلقي.
ومع أن الفنون والآداب بطبيعتها تمثل التمرد الأكثر صلابة على العنصرية وتملك آليات الدفاع والعبقرية التي تمكنها من مواجهتها إلا أن شوفينية شديدة المراس كتلك التي اكتسبت عبر قرون متتالية طرائقها المختلفة وحيلها المتنوعة لتمارس من خلالها فوقيتها واستعلاءها؛ تبدو خصماً عنيداً لها يمكن أن تتضعضع أمامه.
أحد الأمثلة التي تمثل جنوحاً أدبياً وأدباً متطرفاً تظهر من خلاله الشوفينية بجلاء هو الأدب الفارسي، فبدءاً من «الشاهنامه» أو «سير الملوك» بذرتها الأولى التي زرعت في القرن الثالث الهجري على يد الشاعر الفارسي «أبو منصور الدقيقي الطوسي» بتكليف من السلطان محمود الغزنوي إبان حكم الدولة السامانية لبلاد فارس وأتم نظمها بعد وفاته الشاعر الفارسي «أبو القاسم الفردوسي» وتضمنت نصوصاً شعرية تمجد الحضارة الفارسية وتحط من شأن نظيرتها العربية، وظلت تتبرعم لثلاثة عقود ونيف هي المدة التي قضاها الشاعران في تأليفها، مروراً بنموها في العصر العباسي ونشوء الحركة الشعوبية التي ذهب رموزها كأبي نواس وبشار بن برد وديك الجن وأبي القاسم الفردوسي عبر نصوصهم الشعرية إلى ازدراء كل ما هو عربي دون الاكتراث إلى أنهم رعايا دولة عربية ويعيشون بين ظهراني أمة عربية، وليس انتهاءً بالأدب الحديث ورموزه كمؤسس الرواية الإيرانية صادق هدايت والناقد والكاتب القصصي محمد علي جمال زاده والشاعر نادر نادربور الذين لا تكاد تخلو مؤلفاتهم من ذلك النفس العنصري الذي ينتقص كل ما هو عربي.
لقد ظل الأدب الفارسي يتعاطى مع العرق العربي بفوقية وتعالٍ في سلسلة متصلة من التطرف الأدبي امتدت لعقود طويلة ولم يزل المد الاستعلائي حاضراً في نتاجه كسمة أصيلة ورغم وجود نماذج مضيئة حفظت للآداب قيمتها وجاءت أعمالها غير متحيزة لما سوى الإبداع كالشاعر والفيلسوف عمر الخيام والشاعر جلال الدين الرومي إلا أنهما وقلة غيرهما لا يعدون سوى استثناءً للقاعدة، لكنه استثناء يثبت أن نجاح كل عمل أدبياً كان أو فنياً يقترن بحياديته وأنه يجب أن يصاغ بمعزل عن انتماء مؤلفه وإن ظلت أمزجته حاضرةً في ما سوى ذلك.
إن خلف هذا التطرف الأدبي والفكر المتحيز ما هو حري بتأمله وجدير بإبانته، ولعل قراءة متأنية لتاريخ اللغة الفارسية منذ العهد الأورياني مروراً بلغة فارس القديمة ولغة الافستا الزرادشتية حتى تشكل اللغة الفارسية الحديثة بعد اندماجها باللغة العربية إبان العصر العباسي وتشكل الأدب الفارسي بعد ذلك؛ ستفصح لنا عن ذلك النتوء الفكري الذي لم يفتأ الفرس يخصفون من الآداب ما يعتقدون أنه يستطيع مواراته.
سلبية الفكر والوجدان الإيراني تجاه العرب
تتساءل الكاتبة والباحثة الأمريكية جويا بلندل من خلال كتابها الذي يحمل عنوان «صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث»، عن الشوفينية الأدبية الفارسية وتسرد الكثير مما استرعى اهتمامها وأثار فضولها، وتمضي في محاولة فهم الفكر والأسباب التي نشأت على إثرها الشوفينية الفارسية لتخلص إلى أن ما يحمله الفكر والوجدان الإيراني من سلبية تجاه العرب يستند إلى عاملين: أولهما هو اللغة الفارسية التي يعمل القوميون على تنقيتها من كل أثر فيها للعربية، وثانيهما هو تاريخ فارس ما قبل الإسلام والرغبة في استعادة مكانة الدولة الفارسية، ما نتج عنه من محاولات استخدام الأدوات القديمة في زمن حديث.
هذان العاملان وحدهما يفسران الحنق الذي يذكي تلك النبرة الاستعلائية حتى لا تعود هناك حاجة للبحث عن سواهما، بيد أن ثمة ما لم يتنبه إليه أو غض البصر عنه من تبنى معالجة ما ذكرته «بلندل» فتطور اللغة الفارسية وتحولها عن استاتيكيتها كان نتيجة حتمية لاندماجها باللغة العربية وقد كان لفقر اللغة الفارسية وثراء العربية ما له في تفتق أذهان الأدباء واللغويين ذوي الأصول الفارسية كسيبويه وابن المقفع وغيرهما عن تلك العبقرية الأدبية ولذلك فمن اليقيني أن التخلي عن المفردات العربية التي تمثل ما يفوق الأربعين في المائة من اللغة الفارسية أمر لا يمكن بلوغه، فعطفاً على بنية اللغة التي تشكل المفردة جيناتها فإن تخلي لغة ما عما يقارب نصف مفرداتها يشبه محاولة تخلص أحدهم من جيناته، ولذلك فمحاولات السياسة القومية الفارسية الاهتمام بـالزرادشتية وإطلاق الأسماء الإيرانية البحتة التي اشتهرت خلال حقبتها، على المواليد الجدد لم تُجدِ نفعاً ولن تفضي إلى غاية، وكل ما ستنتجه تلك المحاولات هو شبه لغة بجمل غير تامة، كما أن استعادة مكانة دولة ما لا يتأتى إلا من خلال تطوير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة في المجتمع لبلوغ مستويات رفيعة من التنمية والعمل الدائم على تطوير مساراتها.
[ad_2]
Source link