الإبداع والتفكير المتشعب – أخبار السعودية

الإبداع والتفكير المتشعب – أخبار السعودية

[ad_1]

ليس ثمة ما يمكن الجزم به حيال قدرة الكاتب على إضاءة العتمة المحيطة بأمر ما على نحو فريد ومستقل، لكن عملاً كإعادة ترميم فكرة مهترئة بشكل مبتكر ينضوي على حالة من التجلي هي في حقيقتها محصلة لما يمكن وصفه بالمثابرة، ونتاجاً لذلك الأمر الشائع الذي يتضمن محتوى فلسفياً يكمن في التساؤل المستمر والحثيث عن ماهية الأشياء والتنقيب في أوصالها من أجل العثور على كشف مختلف في شيءٍ مألوف ومنحه قيمة إضافية.

وهو ما يفعله المبدعون عادةً، فمعظم ما نظنه حديثاً هو في حقيقته أمر أعيد تعريفه أو صياغته بطريقة مبتكرة ومثرية وليست تلك مثلبة بالطبع بل مزية وملاءة لا يملكها الجميع، وقل أن يبرع فيها كاتب وربما كان ذلك السر في ندرة الأعمال الخالدة مقارنة بما اندثر.

قلة من الكتاب هم من يجيدون لفت الانتباه ويستطيعون إعادة تلك الرموز المتيبسة خضراء يانعة وتحويل اللغة الجامدة إلى موسيقى وعاطفة، ليس فقط لأنهم يدركون أن إضافة شعور خاص وقيمة معرفية إلى ذلك المزيج من الحلقات الكلامية التي تصف أمراً دارجاً وتناوله بطريقة فريدة تجعله ساحراً وتبرز ألقه وتمنحه القبول، بل لأنهم أيضاً يعلمون أنها الوصفة التي تثير نهم القارئ وتذكي لهفته لمعرفة المزيد وتزيد تلهفه للمضي قدماً في ما كتبوا، بينما تنمو ثقته ويتنامى يقينه بأن شيئاً منه قد علق في عبارة عنته فاختزل فيها، وأن جملة برقت في عينيه جعلته يرى بشكل أفضل.

وهنا تتفاوت وتتمايز مقدرة مؤلف عن آخر في إبقاء جذوة الافتتان بالقراءة مشتعلة في عقل القارئ حتى آخر حرف والحفاظ على علاقته العاطفية بمكتبته رغم خيبات الأمل التي تورثها إياه قراءة كتاب رديء.

أمثلة عدة تبرهن على ذلك فبورخيس مثلاً لم يبتكر الاستعارة المجازية في كتاب صنعة الشعر ولكنه أعاد تعريفها وفق رؤيته بشكل مغاير نسبياً ولكنه آسر بالمطلق.

وكذلك فعل مارك مانسون في كتابه فن اللا مبالاة، أحد أشهر المؤلفات التي تتحدث في التمنية البشرية، حين أعاد صناعة الاستحقاق والموت والتصالح مع الذات كلآلئ نفيسة ونظمها ببراعة في عقد فريد أظهر الشكل المثالي لما يعتقد أنه طريقة مثلى لعيش هانئ.

ولم يشذ آلان دو بوتون في كتابه قلق السعي إلى المكانة عن ذلك النمط، حين أعاد تعريف القلق من منظور فلسفي وفق ما يعتقده عن الآلية السيكولوجية للإنسان الحديث وأثر التطور والمجتمع الذي يعيش فيه على ذلك.

وكذلك كان جورج أورويل في رواية مزرعة الحيوان، التي استخلصها من أحداث الثورة البلشفية في روسيا وامتداداتها، وبالرغم من أن أوريول استخدم الرمزية إلا أنها لم تكن لتواري وجه بشار بين كثيفين وعينين جاحضتين يعرفه الروس جيداً، ربما لأن الرمزية أبلغ من الحقيقة أحياناً كما قال الجرجاني.

وجاءت رواية عالم صوفي لـ(أستاذ الفلسفة) جوستاين غاردر، التي بيعت بملايين النسخ وترجمت إلى عشرات اللغات لتكرر قصة الفلسفة منذ طاليوس وحتى ثمانينات القرن الماضي لكن بشكل مبتكر، استبدل فيها الكاتب لغة الفلسفة الإستاتيكية بأخرى ديناميكية ومحفزة على الفهم وأضاف قيمته الخاصة.

وقد يندرج ذلك على الكثير من الأعمال، ولذلك فنحن نرى أن المُبتكر غالباً هو زاوية التناول لا المُتناول، سيما والفكرة المستحدثة لا تأتي من العدم وإنما تولد من أخرى ويمنحها الكاتب ألوانه الخاصة فتصبح كقفازه الذي يعلقه على المشجب وقد علاه شيء من حبره.

وهذا هو بالضبط ما يطلق عليه التفكير المتشعب، وهو أمر يخص كيمياء العقل ويُعنى بخلق أفكار إبداعية مستحدثة ما إن تلمع في رأس الكاتب ويستدعي دواته ليحولها إلى عمل إبداعي حتى تتداعى الواحدة تلو الأخرى فيكتظ بها، ويرتكز المبدع في تنمية هذا النوع من التفكير والارتقاء به إلى مستوى رفيع ينتج إبداعاً مختلفاً على تنمية معارفه والمثابرة اللتين تمنحانه القدرة على إضافة قيمة أدبية ومعرفية إلى العمل.

إذاً فجل الأعمال الإبداعية لا تستحدث من الفراغ، بل هي امتداد متشعب لسابقاتها وإيضاح وإبانة لما استغلق منها، وهذا قد يفسر لمَ هي عصية على نزعها من سياقها الزماني والتاريخي ويعلل ضمورها حال فصلت عروقها عن تربتها المكانية؛ ولذلك نرى أن تأليف رواية عن النرجسية مثلاً ستبدو سطحيةً حين يغفل مؤلفها التحليل النفسي الذي ضمنه فرويد كتابه الشهير (مقدمة عن النرجسية)، كما أن كتاباً يتناول سيرة النرجسية سيبدو غريباً حين لا تأتي قصة نركسوس في طياته، وإن عدها الكثيرون أسطورةً.

بيد أن ما يحقق تمام الإبداع هو إضافة قيمة إلى ما سبق معرفته.

وهو ما يستطيع أيضاً هذا النوع من التفكير أن يمنحه الكاتب فيُصيره مبدعاً، ولذلك كان الإبداع صديقاً مخلصاً للتفكير المتشعب يتداعى إليه متى أُعمل العقل على مذهبه.



[ad_2]

Source link

Leave a Reply