المجانين والكلاب – أخبار السعودية

المجانين والكلاب – أخبار السعودية

[ad_1]

استوقفني عنوان القاص محمد العرادي (لماذا يظن الجندي غير المجنون أنه كلب؟)؛ لغرابته المفرطة، ولما تحمله ثيمة الكلب من حضور سردي قار في المدونة السردية، فهناك تحريات كلب لفرانز كافكا، اللصوص والكلاب لنجيب محفوظ، حرب الكلب الثانية لإبراهيم نصرالله، جمهورية الكلب لإبراهيم اليوسف. الأوبرا والكلب لعلي الشوك، وفي رواية حين تركنا الجسر لعبدالرحمن منيف كان الكلب وردان بطلًا للعمل الروائي. ثم ظهر الكلب أخيرًا في عمل العرادي بطلًا وسيدًا وثيمة بارزة عنونت بها المجموعة القصصية، كانت هذه الوقفة قد كشفت كمًا هائلًا من الحكايات غير المترابطة وكأنها تتمة للعنوان المستفز.

في مجموعته الأخيرة (لماذا يظن الجندي غير المجنون أنه كلب؟) يطالعنا القاص العرادي بانفجارٍ حكائيِّ متواتر، والتفجير هو تشظٍ يضربُ العلاقةَ بين الوظائف السردية الأساسية التي تقوم عليها الحكاية، حيث يهدم انتظامها السببي والمنطقي ويخرجها من إطارِ الخضوعِ لفنيّات الحبكة. فأغلب محكيات (لماذا يظن الجندي غير المجنون أنه كلب؟) تخضع لمنطق التجاور المكاني؛ ففي قصة (التماسيح) تمثلت الوظائف الأساسية في (محكي الراوي: الاندهاش المتواتر من الأحداث العجائبية/‏ محاولة عقلنة الأحداث/‏ التشتت واللا نهائية واللا معرفة)، والتي تجاورت مكانيًا في (غرفة النوم، الحمّام، البيّت) حيث مثلت هذه الأوعية المكانية بنىً قارة سيطرت على مجريات الأحداثِ المتسارعة والمختلفة. اتخذت من الأفعالِ داخل الوظيفة قرائنَ لغوية تمايزت بالنص من قبيل: (دوّى، قلت، أكتب، لستُ، أظن، يظن، أشعرني، توهمتُ). حيث الشعور بالانفجار ثم محاولة عقلنة الشعور أسهمت في تشكيل اللعبة القصصية على النحو التالي:

(حدث واقعي سمعي) أدّى إلى (التهويل والتكذيب)، (عجائبي مركب) أدّى إلى (هلوسة قصصية)، (الدهشة المتواترة) أدّت إلى (ظهور الأنا القاصة). هذه اللعبة أتت أُكلها أخيرًا بين تشاكل مداريّ النفي والإثبات أو الإثبات والنفي.

وعليّه، تشكلت أنماطُ السرد على شكل لوحة؛ فاستعارت من تقنيةِ الرسم ما يصطلح على تسميته بـ «صنع اللوحة» في تحقيق مبدأ الانسجام (Lacohérence ) القصصي وسط هذه المحكيات المتفجرة، فظهرت لنا القصصُ التالية على شكل لوحات مستقلة داخل القص:

1- لوحة دوي انفجار بالبيت.

2- لوحة محكي المرأة.

3- لوحة مدرس لرياضيات.

4- لوحة حكاية الحمّام.

5- لوحة قصة التمساح لدستويفسكي وخطف التمساح بنت مخيمر النقيب.

6- لوحة اللّص.

7- لوحة الإسرائيليين والهاغاناه.

ظهرت هذه المقاطع وكأنها لوحة يستطيع فيها القارئ تعيين أحداثها، وملاحقة فجوات البياض فيها.

كما ساعد انتظام الانسجام في الاستفادة من الحقل السينمائي في نظام التقطيع وصنع اللقطة؛ فتّم تقطيع السرد إلى لقطات، واللقطات إلى مشاهد صغيرة، وهذا يكشفه التداخل السريع والتنقل بين اللوحات السردية والانثيال الحاد للمحكيات الصغرى من قبيل: (محكي نهر النيل، محكي مرض الحُماق، محكي المرحاض، محكي التوهم، محكي الرجل الصغير، محكي الجنود العرب المتطوعين). والتي انطوت على الإطار العام وهو محكي الراوي الذي بدوره تناسلت تحته المحكيات انفجارًا. التقطيع السريع يتجلى في نظام العبارات المقطوعة: «المرأة التي بجواري صرخت صراخ من يخشى الموت… أظن أن طنين الانفجار ظل يزعجه في القبر… الأم التي لا تستخدم الكلوركس في كل حين… المرأة التي تنام بجواري ليست مثل الأم» وهكذا دواليك حتى نهاية السرد. وفي الحقيقة لا تعد هذه اللقطات السريعة تنافرًا ظاهرًا، بل حسب ما أكد عليه الناقد نبيل سليمان بأن للقص عامة والرواية خاصة «للرواية ظاهرًا وباطنًا؛ ظاهرًا مفككًا، يتلافاه الكاتب بما يشبه التوليف السينمائي، وباطنًا منسجمًا. بمعنى أن المؤلف لا يصور لقطاته على نحو تعسفي، إنما يخضع اختياره لنظرة جمالية كلية تجعل مجموع اللقطات صورة شاملة تدعم وحدة الرواية أصلًا».

كما اعتمد الكاتب التناقض مبدأ في الاشتغال الحكائي لتحقيق كفاية الانسجام، فهذا التناقض أسس منذ لحظة السرد الأولى؛ فتتكشف المفارقات منذ اللوحة الأولى، وكل لوحة تباغت التي قبلها بتناقض حكائي عجيب، فكل نواة محكي هي قصة غريبة ومتناقضة، وهذا ينم عن وعي الكاتب وقدرته اللغوية في الانثيال ورغبته في التفاعل مع القارئ بطريقة إيجابية.

ويلاحظ اعتماد الكاتب على مبدأ التعالق؛ فكل محكي يتفجر من محكي سابق، كأن يطابق بين الحدث في المحكيين السابق واللاحق كما في قصة التمساح المتكررة، أو يكرر ثيمة من قبيل (المرأة التي بجواري)، (المرأة التي تنام بجواري)، دوى ذلك الصوت الانفجاري) وكأن الكاتب يريد عودة القارئ للنقطة البكر في المحكيات المتلاحقة. كما تعالقت الحالات الشعورية (الخشية)، (الخوف)، (الظن)، (الخضوع)، في استبطان سردي لأغلب شخصيات القصة.

بالرغم من التفجر الحكائي في قصة التماسيح إلا أنها خلقت مواضع استدلال لمنطق القراءة فيها، وحققت كفاية جمالية، شرعت فيها الباب للمتلقي/‏القارئ في أن يملأ فجوات التقطيع السينمائية إلى تأويلية جديدة، أما أنها تواكب العجائبية في النص، أو تشده إلى واقعية محتملة. خاصة أن الاستراتيجيات النصية التي بناها الكاتب كانت تبحث عن قارئ مختلف متوثب يستقبل التوتر الداخلي والفجوات النصية الكثيرة والناتجة عن التقطيع بكفاية أيدلوجية تساعده على سبر النص بمضامين جديدة. إن تجربة العرادي خُلقت لقراءة غير اعتيادية متفجرة، هذا التجريب الإبداعي يستحق أكثر من دراسة وتأويل فني.



[ad_2]

Source link

Leave a Reply