هي التي رأت كل شيء.. الحبيبة سرّ الحياة – أخبار السعودية

هي التي رأت كل شيء.. الحبيبة سرّ الحياة – أخبار السعودية

[ad_1]

حاول كثيرٌ من علماء النفس التوصل الى تعريف خاص للإبداع ما إذا كان مرتكزاً داخل النفس أم خارجها؟ ما إذا كان تفاعلياً بين الاثنين أم لا؟ كما حاول المشتغلون في الحقول الأدبية والفنية إيجاد تعريف واحد مشترك للإبداع من حيث هو فكرة مُنتِجة للذات وللآخر وهل هو حسٌّ فردي أم جماعي ومتى يخرج من الفردانية الى ما هو جمعي؟! ورغم كثرة التعريفات التي عُرِّف بها معنى الابداع ومعنى المبدع ومعنى المادة الابداعية إلا أنّ أغلبها اتفق على أن الإبداع فكرة فردية تُميّزُ القدرة الشخصية لفردٍ ما عن غيره في إنتاج أفكار جديدة!

شخصياً لستُ معنية كثيراً بتعريف الإبداع لكنّي مهتمّة جداً بفردانية الإبداع وتفرّد المبدع، لذا أنا معنيّةٌ بالمبدعين الذين يتجاوزون الآخرين بإنتاج أفكار جديدة مستمدة من يومياتهم أو قصصهم أو عوالمهم الخاصة التي قد لا تعني أحداً غيرهم إلا أنهم يتفاعلون معها لينتجوا منها حدثاً أو ملحمةً فرديةً لكنها ستتسللُ من فردانيتها إلى روح الجمع وتتشارك مع الآخرين بعض ما مرّ بها. وهذا تحديداً ما يحدثُ في الشعر، إذ لا يولدُ الشعر من فراغ ما! بل هو تجربةٌ إنسانية فردية يتبادلُ الشاعرُ فيها دورين: دور الشاعر ودور المتلقي، فهو يصوغ من مأساته، معاناته طوق نجاةٍ للآخرين ويمدُّ من خلال حروفه جسراً روحياً بينه وبين الآخر المتلقي لتكتمل عملية الإبداع بشكلها الدائري بين المُرسِل والمُرسَل إليه واكتمال الرسالة التي بلغت الاثنين معاً.

هذه المقدمة البسيطة كان لا بد منها قبل الحديث عن الديوان الشعري الصادر قبل أيام عن دار الكيتب للنشر والتوزيع والذي حمل عنوان «هي التي رأت كل شيء» للشاعر الكويتي عمر الخالدي.

هذا الديوان الذي حمل تجربة إبداعية فردية ذاتية في أول وهلةٍ للقراءة، لكنه حمل كل السمات التي تجعله جسراً بين الذات المُنتِجة والذات المستقبلة!

العنوان:

لا بد لي من النظر في العنوان الذي اختاره الشاعر لملحمته الخاصة وأنا المُغرَقةُ بالملاحم وببابلَ وسحر بناتها وعوالمها الخفية التي حاول الخالدي إحياءها في هذا الديوان!

إذ لا يمكن الولوج إلى الديوان وقصائده دون الوقوف قليلاً عند العنوان «هي التي رأت كل شيء»، وهو العنوان الذي تحمله القصيدة الأولى، وكأن الشاعر لا يطيق انتظاراً أو صبراً ليؤجّل ما يريد قوله للقارئ فهو يستعجله لفهم غاياته في الإحالة الأولى والكبرى الى ملحمة «كَلكَامش» حيث البطل السومري (هو الذي رأى كل شيء فغنّي بذكره يا بلادي) لكنّ الخالدي لا يريدُ البطل السومري بل يستعير الرؤية من كلكامش ليصيغ منها شكلاً آخرَ ومفهوماً آخر ورؤية أخرى يُسقطها على عالمه اليوم وعلى ما رأى وما رأت وما سنرى!

فالبطل في ملحمة «الخالدي» ليس رجلاً ولا يملك جسد كلكامش القوي البُنية ولا يملك ثلثاً إلهياً كما تروي الملحمة السومرية.. بل جعل بطل ملحمته كائناً رقيق البنية والتفاصيل قويّاً بتأثيره، بسحره، بقدراته الخارقة على اختراق المشاعر والقلب فجاء البطل على شكل «الحبيبة» التي منحها الشاعر كل ما رآه كَلكَامش وكل ما كان لكَلكَامش من قوة وسطوة.. وها هو الشاعر نفسه يبحثُ عنها ليعيد الحياة إلى صديقه القلب!

الديوان:

في قصيدة «والحب أيضاً لا يعرف الغرباء» ص ٢٣، وهي قصيدة حوارية يعلو بها صوت الحبيبة على صوت الشاعر لكنه يختتم القصيدة بالفراق وكأنه يطيعُ خوفه من الفقد:

«إني أحبكَ يا غريب»

وأومأت للظل في أقصى المدينة

كي تعيد لحبها حاءً

لكنه ُعْمٌر وطافْ

قلبي وقلبك يا غريبةُ لن يعودا للحوافْ

وهذا المعنى يتكرر في قصيدة «لستَ وحدك» ص ٤٩:

وكان يظنُّ بأن الإله

سيُمسكُ عنه السماء

وأنّ الرياح

له لا عليه

وأنَّ الخليقةَ

تبدأ منه الحكاية دوماً

وأنّ الظِلال تفيء عليه

الى أن تهجّى عروق السِّفاح

فخطّ على الأرض خطّاً

وراح

قد تتجلى الفجيعة كلها في هذه الأبيات القليلة التي قد لا ينتبه اليها القارئ الذي سيؤخَذ بصور الحب والعلياء باسم الحبيبة التي تحولت رمزاً عشتارياً أو أفروديتياً أو آلهة تمنعُ وتعطي لكنها لم تتورع أبداً من جعله يتهجّى «عروق السّفاح» دون أن تطرف لها عين مما أودى بعرشها في قلبه ليضع خطّ النهاية على الأرض، خطّاً قد يكون بداية لشيء ما وقد يكون خطاً للنهاية وحدها كي يستريح مما أتعبه!

كذلك من القصائد التي سيجدها القارئ مختلفة عما اعتاده قراء الشعر قصيدة «هذه تسعة أحبك والعاشرة سأهمسها في أذنيكِ» حيث تجسد هذه القصيدة عالماً متماوجاً من الفرح والطرب والغزل الذي يتداخل به الحس الايروتيكي مع المعنوي ليشكل مشهداً مسرحياً من استدعاء الحبيبة المستبدة والمستعصية على المجيء:

اُحبّكِ سمراء جداً

بلون التراب

بنهدين أصغر مما أظُنُّ

وألطَفَ من أيّ شيءٍ يُظَنُّ

اُحبّكِ

حدّ اعتناقي لوجهكِ

حدّ ارتكابكِ معنىً جديداً

لهذا الغياب

فردّي إليّ الحدود

وشدّي عليَّ بقايا القيود

…. الخ

تتكرر جملة «أحبكِ سمراء جداً» في هذي القصيدة ستّ مراتٍ للتوكيد على احترام الذات الأنثوية بأشكالها، خاصة في البلاد العربية حيث التفضيل عادة ما يذهب لصاحبة اللون الأبيض أو الحنطي أو اللون الفاتح، وهنا احترام وتقدير وحب كبير لهذه الحبيبة التي تتمتع ببشرة أدكنَ من غيرها. كما أن اللون له إحالات كثيرة في الشعر ليس محلها هنا.. ورغم أن هذه القصيدة من القصائد الايروتيكية الواضحة الملامح لكنها تستبطن إعلاء للأنوثة وتسبيحاً آخر بجمالياتها الباطنة والظاهرة.

أما النص الذي يحمل عنوان «هو الذي ما رأى أي شيء» فهو نص نثري سردي تعلو به السردية على الشعرية. إذ يحتوي الديوان أربعة نصوص نثرية سردية جاءت على شكل رسائل بين القصائد الشعرية.

أخيراً.. هذا الديوان ورغم ذاتيته وفرديته العالية إلا أنه فتح باباً جديداً للعودة إلى قصائد الحب الراقية والعالية المضامين فرغم الفورة الجسدية داخل الديوان إلا أنه خالٍ من الإسفاف أو ما يخدش حياء القارئ، إذ به من التقدير، والاحترام العالي، والراقي للحب، والحبيبة الشيء الكثير! كذلك من الملاحظ جداً أن الديوان قد كُتب بنَفَسٍ واحد ووتيرةٍ واحدةٍ ونبرةٍ واحدة وحالةٍ واحدة وكأنه جاء على شكل قصيدةٍ واحدة بعناوين متفرعة! كما لن يخفى على القارئ تواريخ القصائد المتقاربة جداً وكأنها كُتبت بعد ثورةٍ ما أدّت إلى انتهاء الحب أو اختفاء هذه الحبيبة أو الملهمة من عالم الشاعر.

ورغم عدم ميلي في النقد للصق الأحداث والحوادث بالبُعد الشخصي لدى الشعراء لكنّ السمة الغالبة على هذا الديوان تحديداً هو البعد الذاتي والشخصي، مما لا يدع مجالاً للقارئ للتأويل بأنه محضُ خيالِ شعرٍ بلا حدثٍ أو سندٍ يستند عليه. بل أكّد الشاعر في كل قصيدةٍ حواها الديوان على تجربته الفردية في الحب وقصته الفريدة مع الحبيبة التي منحها عرش الكون وصار راهباً في محرابها حيث الأنا العالية لها ورفعها مقاماً لا يصل إليه أحد.

وأيّاً كان الوجه الذي يقفُ وراء هذا الديوان، وأياً كانت القصة أو الحبيبة التي اختفت من حياة شاعرها ليتفاعل مع معاناته للفقد ويحوّلها إلى ديوان فعلينا شكر هذه العشبة الهاربة /‏‏‏ الحبيبة.. لأنها المُنتج الثاني لهذي القصائد فهي بطلة هذه الملحمة التي ولدت منها وإليها، وأياً كان الذي كان فمن حق القارئ أن يبحث عن إنصاف وإعادة نظرٍ بمن هلّل لقدومها ومنحها صفات البابليات والسومريات وهذا ما لم نعتد قراءته من الشعراء وهم يمتدحون حبيباتهم.

وهذا بحد ذاته امتياز يستحق الاحتفاء والاطراء.

مباركٌ للشاعر الكويتي عمر الخالدي ديوانه ومبارك للأصدقاء في دار الكيتب ومبارك للقارئ العربي هذه الوجبةَ الباهظة من الحب.



[ad_2]

Source link

Leave a Reply