[ad_1]
أحياناً يسكنني هاجس بأن الأوطانَ تتقاطع مع الأديان، بدأت متعددة الآلهة، وانتهت توحيدية أو فرديّة، وهناك سجال، خيض ويُخاض فيه آنياً ومستقبلياً ربما حول حق الدول في الحلم بالتوسع، والتحول من دولة إلى إمبراطورية، إلا أنه ليس كل ما يُحلَمُ به أو تتخيّله أو تطمح إليه يتحول إلى حقيقة ملموسة مهما كانت الروح عقائدية، والإمكانات متاحة، فالتبعات المترتبة على التوسعية كبيرة، والتكلفة باهظة، ولذا كانت الدولة الوطنية رحمة، وليست هناك أرض، مهما تضاءلت مساحتها ضاقت بأهلها.
كان في القُرى زمن طفولتنا بيوت يسكنها ثلاثة وأربعة أجيال؛ الأجداد والجدات، والآباء والأمهات، والأعمام والعمات، والأولاد والبنات، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية وعُرْفِيّة تُحتّم عنقودية الأسرة، وكثيراً ما كانت تقع الإشكالات شبه يومياً، كون عوامل ومصادر الإنتاج تضيق، والاستهلاك يتسع، ولا نجاة لفرد من تهمة تقصير، أو تفريط، بحكم التهرب من المسؤولية، والتملُّص من الاعتراف بالخطأ، إضافة لتجلي الاتكالية في كثير من الأحيان، وتقع الممالأة لبعض المحظيين، والضغط بقسوة على آخرين، وكل ذلك يدفع البعض لرفع يديه للسماء بأمل الفرج بأن يستقل كل ابن متزوّج بزوجته، ويعيش حياته بعيداً عن هذه الاشتراكية التعسفية، فالحياة القروية تقوم على تحالف شرس ومعقّد، وما أسعد تلك اللحظات التي كان يعلّق فيها ابن من الأبناء الجرس، خصوصا إذا نال وظيفة، فيطلب من والده وأعمامه السماح له بالخروج لبيت مستقل هو وأسرته الصغيرة، أو يستسمحهم للسفر بزوجته، فتضطرب مشاعر البيت الكبير بين نادب حظه، ومستنكر، ومترقّب لدوره؛ خصوصا من زوجات الأبناء، ولو تم ذلك وقليلاً ما كان يتم يلحق بالكائن المُستقل اللوم والعتب والنعت بالعقوق، والبعض ينتقل للعمل في أي منطقة وزوجته تبقى مع أهله، فلا يُسمح له باصطحابها، ومن التوصيف التملكي قولهم عن زوجة الابن (مرتنا)؛ أي أنها للجميع وفي خدمة الجميع، عدا ما حرّم الله.
لو عَلِم الذين اقترحوا فكرة التوسع للدولة في أزمنة مضت بالنتائج التي ستؤول إليها الأمور، لما طرحوا الفكرة ولا تبنوها؛ فاتساع البلدان يضعف تنمية الإنسان، ويهز جذر الانتماء ويُتيح بيع الولاء، وكلما اتسعت دولة ترهّلت، ومن يقرأ تاريخ الدولة العباسية سيرى بوضوح كيف أن التوسع ما كان في صالح المشروع، فتعددت مركزية القرارات، وانبعثت نعرات، واشتعلت نزاعات، ولم يعد الحاكم يعرف أمراءه في إقليم بالقرب منه، ناهيك عن الأبعد.
تكررت التجربة، الإسلاموية، مع السلطنة العثمانية، التي امتد نفوذها أكثر من طاقتها وقدراتها، فاستحالت (خلافة مريضة) تعيش على الإتاوات والمكوس، وآمن أتاتورك أن الحلّ في الاقتصار على حدود دولة قُطرية تحفظ ما تبقى من ماء الوجه.
ولم يستوعب جمال عبدالناصر درس الخلافة العثمانية، فكرر التجربة من خلال الوحدة العربية، التي كبّدت مصر، خسارة الكثير، من فرص بناء دولة حديثة قوية الاقتصاد، وشهد العالم النكبة والنكسة التي كان سببها الحلم بالتوسع، واستعادة شخصية النبوة العربية في زعامة سياسية.
لم تستنكف بريطانيا العظمى، التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، عن التراجع، وسحب الجيوش، والاكتفاء بجغرافيا تمكنهم من التمدن والاكتفاء، فهناك واقع يتحكم فيه التاريخ وتضبطه الجغرافيا، ويعليه الانسجام المجتمعي، والظروف الاقتصادية، وهناك افتراض غالباً ما يتسبب في الفشل أو يكون فاشلاً بذاته؛ لأنه يحاول استعادة ما لا يُستعاد، ويرهق نفسه بما لم يُخلق له، فالقومية نعرةٌ قابلة للتحارب، والإسلاموية مغامرة أممية غير مأمونة العواقب.
ولعل أكبر إشكالية مر بها العالم العربي والإسلامي أن آلة الإعلام بالغت في أحلامها، والشارع صدّقها، واعتمد عليها، في الذهاب لمشاريع محكومة بالإخفاق منذ البدء، وأوهمت العروبة والإسلاموية شعوباً بأن الجينات الوراثية كافية لبناء الدولة النضالية المعتدة والمُعتمدة على ما في وجدانها من إرث عروبي وديني، يمكّنها من هزيمة خصومها بالحُسام لا بالكلام، ومع الأسف أن ما حدث هو العكس.
ربما لم تشعر بريطانيا بالارتياح في نومها إلا عندما غابت عنها الشمس، وظل الحل الآمن في قيام الدولة الوطنية والمشروع المحلي، لأن أهله مسؤولون عنه، مأجورون على نجاحه؛ ومأزورون على فشله.
[ad_2]
Source link