الدين.. نظامٌ لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة – أخبار السعودية

الدين.. نظامٌ لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة – أخبار السعودية

[ad_1]

الدينُ كما أفهمه نظامٌ لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، تفرضه حاجةُ الكائن البشري الأبديةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعية. لا يمكن أن يستغني هذا الكائنُ عن المعنى الذي يمكّنه من: إنقاذِ نفسه من الاغتراب والقلق الوجودي، وحمايتِه من فائض الخوف الذي يهدّد أمنَه النفسي على الدوام، والظفرِ بسكينة الروح وطمأنينة القلب، والتغلبِ على الدوافعِ العدوانية المترسبة في أعماقه، وكلِّ ما يدعوه للتعصب والعنف ضدَّ الآخر.

الدينُ لحظةَ تأسيسه انبجاسٌ غزير لينبوع المعنى، يتدفق كالشلال ليرتوي منه ظمأُ الإنسان، نضبت منابعُ المعنى في حياته. يتمدّد الدين خارج الفضاء الجغرافي الذي ظهر فيه، فتدخل فيه مجتمعاتٌ تنتمي لديانات وثقافات وأثنيات مختلفة، ينخرط الدينُ بالتدريج بمختلف وقائع التاريخ، بعد وفاةِ مؤسّسه والابتعادِ عن لحظة التأسيس، فيتفاعل مع أنماط عيش الناس المتعددة وثقافاتهم المتنوعة وتقاليدهم.

تتوالد بمرور الأيام تفسيراتٌ متنوعة للنصّ المقدّس، تختلف باختلاف المفسّرين، وتتنوع بتنوع ثقافاتهم وأديانهم السابقة، وشبكات مصالحهم. يحاول كلٌّ منهم الاستحواذَ على تفسير النصّ واحتكاره. تعكس هذه التفسيراتُ الاختلافاتِ الثقافية، ورؤيةَ المفسّر للعالَم، وتشكّلها في سياق المقولات الاعتقادية للفرقة الكلامية المنتمي إليها المفسّر، والمواقف الفقهية لمذهبه حيال المذاهب الأخرى، مثلما تعكس التفسيرات التضاربَ في شبكات المصالح، والتنافسَ على السلطة والثروة.

لا يتوقف الاختلافُ عند تفسيراتِ النصّ المقدّس، وإهدارِ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يبوح به، بل يتجاوز ذلك إلى توسيع حدود هذا النصّ، عبر عمليات وضعٍ وانتحالٍ واسعة. فمثلا في الإسلام نجد القرآن الكريم هو الكتاب المقدس المتفق عليه بين المسلمين. أما السنة الشريفة فقد اختلط تدوينها، المتأخر نسبيا، بعمليات وضع لأحاديث كثيرة، ألَّف فيها المتقدّمون والمتأخرون كتبا متنوعة، وابتكروا طرائق متعددة للتثبت من صحة صدور الحديث، عبر دراسة السند، والتعرف على رواته، واكتشاف مواقفهم، وتمحيص آثارهم، والتدقيق في سلوكهم، وعدالتهم، ونزاهتهم عن الكذب، والتزامهم الأخلاقي. مضافا إلى دراسة متن الحديث، وتفحص دلالاته، واختبار مدى انسجامها أو تعارضها مع دلالات آيات القرآن الكريم، والأهداف الكلية للدين.

لو أحصينا طُرقَ المروي في جوامع الصحاح وكتب السنن والمصنفات والمستدركات والمستخرجات والمسانيد والمعاجم، ومدونات الحديث لدى كل فرق ومذاهب الإسلام، بتعدد سلاسل السند والطرق الواردة فيها الأحاديث، نجد ثروة لا تضاهيها كميةُ النصوص الدينية لأي دين إبراهيمي، وربما لكلّ دين.

تمثل ثروة الأحاديث هذه ما نقله الصحابة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وما احتفظت به ذاكرةُ عدة أجيال من الرواة في القرون الأولى: الأول والثاني والثالث، بطرقهم المتنوعة إلى من يروون عنهم، وما أُضيف بمرور الأيام، استجابةً لما حفلت به حياتُهم من احتياجات متنوعة، ووقائع ومطامح مختلفة، ومشكلات وصراعات وحروب مؤلمة، بحيث صار الحديث مرآةً انطبعت فيها صورٌ لكلّ ما عاشوه في حياتهم.

تحولت هذه الثروة بالتدريج إلى منجم يمدّ علمَ الكلام بما تتطلبه صياغةُ مقولات المتكلمين الاعتقادية من: أدلة ودفاعات، تبرر انتماءَها للوحي وانبثاقها منه، فترسم صورةً لله وصفاته وأسمائه، وفقا لما تعبّر عنها اجتهاداتُ المتكلمين وآراؤهم المشتقة من كيفيةِ رؤيتهم لله، واختلافِ اتجاهاتهم وأحوالهم وثقافاتهم وأزمنتهم.

إن اتساع عمليات الوضع وتنوعها تبعا لتنوع دوافعها الدينية والسياسية والثقافية، وتعبيرها عن شبكات مصالح متضادة، أحدث مشاكل كثيرة، من أبرزها اتساعُ حدود النصّ المقدّس كميا وكيفيا، وتبعا لذلك اتساعُ حدود الفقه، واستيعابُه لكلّ مجالات الحياة.

الفقه قانون غرضه تنظيم العبادات، وكلِّ شؤون الحياة الخاصة والعامة، ولا يدخل في غرضه الأساسي إنتاجُ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي ينشده الدين. كانت ثروة الأحاديث ينبوعا يرفد الفقه بما تتطلبه عملية الاستنباط من أحكام متنوعة، تجيب عن أسئلة حياة الفرد والمجتمع والسلطة الكثيرة. احتاجت عمليةُ الاستنباط إلى قواعد تتحكم في فهم آيات الكتاب والسّنة وتوجه بوصلةَ تفسيرها، وتغطي حالات الافتقار لآية أو رواية في الواقعة، أو عدم قناعة الفقيه بصدور الرواية عن النبي الكريم، فظهر علمُ أصول الفقه، ليشكّل منهجا يضبط عمليةَ التفكير الفقهي، ويعلي من مكانة السّنة، إلى الحد الذي صارت فيه السّنة تتحكم في دلالات الآيات، تتقدم عليها، فتخصص ما هو عام، وتقيّد ما هو مطلق، وتضيّق مساحة الإباحة الواسعة في الكتاب الكريم. اتسع نطاق الفقه وتمدّد ليستوعب كلَّ ما يتصل بأحوال الناس ومعاشهم، وذلك ما دعا الفقيهَ لأن يجيب عن أسئلة الناس المختلفة، ويبحث عن حلول فقهية لمشكلاتهم.

بعض مقولات علم الكلام وبعض مسائل الفقه صنعتا أسوارا لعقل المسلم، ‏وأغلالا لروحه، وعذابا لقلبه. ‏هناك صراع مرير بين اتجاهين في إسلام التاريخ: اتجاه تمثل في تسلط مؤسسة الفقه في الإسلام واستحواذها على المدونة القانونية للحلال والحرام، ‏واستملاك هذه المؤسسة الرمزي للسلطة الروحية وكل شأن يتعلق بالمقدس، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى الاتجاه الذي تبناه بعض المتصوفة، وأعني بهم ‏الذين قدموا لنا رؤية ميتافيزيقية بديلة، مثل محيي الدين بن عربي، وهي رؤية تحررت من أسوار المتكلمين، رؤية ترى «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق»، وأن الله يتجلى لكل أصحاب معتقد ‏بالصورة التي يعتقدون بقدسيتها، فحرروا الروح والضمير الديني من سجون ‏انحصار الحق والحقانية والحقيقة في معتقد أو مقدس بذاته.

نشأ التصوّف بوصفه محاولة لاسترداد الدين لوظيفته بوصفه نظاما لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، ففي بدايته كان بصيرةً مُلهِمةً، لكن انطفأ ضوؤها لاحقًا عندما ضيّع المتصوّفة معنى الدين في زوايا العزلة والهروب من المجتمع. نشأ التصوّف ليسترد المعنى الجميل في الدين غير أن ذلك المعنى ضاع من أكثر المتصوّفة.



[ad_2]

Source link

Leave a Reply