انفجار الحكاية وعلاقة البشرية بالأسطورة – أخبار السعودية

انفجار الحكاية وعلاقة البشرية بالأسطورة – أخبار السعودية

[ad_1]

لا قبر يتسع لدفن (الكلام) ومن الاستحالة فعل ذلك.

فلتكن نعوش أحاديثنا نجوماً يتسع لها الكون، هناك فقط هناك سوف تشع لتدلنا على الطريق الناجع لفهم الوجود كما فعلت الأسطورة في البدء.

***

علاقة البشرية بالأسطورة علاقة بدأت بالخلق الأول وظل ذلك الخلق ناثراً بذور وجوده عبر الديانات المتوالية إلى أن بلغ العلامات الكبرى لانتهاء البشرية من خلال علامة الدابة وفق المفاهيم الأدبية لأسطورة الواقع في المفهوم الإسلامي.

ولهذا أجد نفسي مردداً أننا بقايا أساطير نسكنها وتسكننا.

وحين آمنت بتلك المقولة أخذت أتلمس وجودها في حياتنا، فإذا بها تغلف كل شيء كمحيط وتتغلغل في ممارساتنا كمرتكز سلوكي أنتجته أساطير موغلة في الزمن نمارسها من غير أن نستبين أنها بقايا فعل أسطوري تحول إلى سلوك.

وأجدني منساقاً لتعريف الثقافة بأنها كل فعل أو قول ترسب داخل المجتمع وتحول إلى سلوك أو إيمان يمارسه الفرد من غير فحص أو مراجعة.

وإذ ولجنا من هذا الباب فسوف نجد أن الأسطورة تسكننا ونسكنها كإيمان وسلوك، كفعل لا نعرف مصدره.

كانت البداية من تلك الطفولة الأولى.

في قرية استرخت على حواف واد ضخم، ومن أسرة مزارعة تعرف تفاصيل الأرض بما يخرجه باطنها من ثمار، كان على أفرادها تعلم أوجاع الحقول ومداواتها قبل أن تنعكس على حياتهم.

ومن الطفولة الأولى وقفت على الأرض الخسئة والمرتوية والجدباء والمشققة والضامئة والمغبرة، فالأرض كائن يحزن ويفرح، وعلى الفلاح التعامل مع كل حالة من حالاتها وفق ظرفها مستجلبا كل الأساطير التي مضت عبر الزمن لكي يعيد إليها شيئاً من بهجتها.

فإذا تمدد القحط تغلغلت الفاقة بين الناس، اُستجلبت الأغاني لإحياء موات الأرض، وهو فعل به استعادة لأسطورة النسر، ففي زمن غابر اختصمت الأرض والسماء، وإمعانا في الخصومة قطعت السماء ماءها عن الأرض، ومضت السنوات، وفي كل سنة يتضاعف ألم الأرض باتساع رقعة الجفاف بها حتى لم يعد بها مكان به ثمر أو شجر، فماتت الحيوانات والطيور وهلك البشر، وإزاء هذا الموات أشفق النسر على الأرض وكائناتها فحلق عاليا صوب السماء وأخذ يغني لها ويستعطفها لأن تنهي خصامها مع الأرض، ولحلاوة وطراوة وعذوبة غنائه تصفح السماء عن الأرض وتسكب أمطارها، فتنبت الأشجار وتثمر بثمارها وتستعيد الأرض بهجتها وتعود كائناتها تدب على سطحها.

في طفولتي الأولى كنت محظوظا إذ عشت داخل الأساطير كحكاية وكفعل، ولأن ذاكرة الطفل ذاكرة محلقة ومستفسرة منذ البدء، وقبل بلوغ الحلم إذ إن بلوغه يعني التكليف بحيث يكون الفرد قد تزود بما يجب ولا يجب، بينما الطفولة السابقة هي اختراق ما يجب ولا يجب.

في تلك الطفولة كان سؤالي لو أني سرت في خط مستقيم إلى أين أصل؟

لم يكن هناك من أحد يجيب عن أسئلتي الحائرة سوى أمي -رحمها الله رحمة واسعة- لا تملك من المعرفة إلا ما يقال أو ما تم تغذيتها به للإجابة عن الأسئلة الوجودية الضخمة سوى أساطير تتناقلها القرية لكي تسكت نهم الأسئلة المتقافز من ألسنة أطفالهن.

أجلستني أمامها وقالت:

– لو أنك سرت على وجهك -وستحتاج إلى سنوات- فسوف تسقط في بحر الظلمات.

واقترن في مخيلتي بحر الظلمات بالليل.

ليل القرى دامس لا ترى فيه ظاهر كفك، وأي ضوء شحيح قادم من مكان ماء سواء من فانوس أو نجم في عمق السماء يخلق تخيلات في ذهنية ذلك الطفل فيظنها جنا جاؤوا لإزهاق روحه أو خطفه إلى الأرض السابعة.

فالأرض السابعة موجودة كأداة تخويف أن من يسكنها هم الجن ومن يتم خطفه ليلا لن يرى نورا أبدا إذ سيعيش داخل ظلمة أبدية.

وخلال ليالي السنة لا نستطيع الابتعاد أو السير في منحنيات القرية حتى إذا قدم رمضان تحولت الليالي المظلمة إلى قطعة من ليل آمن، فالإيمان المطلق بأن الله يصفد الجن والشياطين في رمضان يجعل المرء يسير من غير أن تنتابه الهواجس، فما يحدث في ليالي غير رمضان كان مثيراً للرعب، بينما يحدث نفس الفعل في الليالي الأخرى يتحول إلى رعب حقيقي.

لم تكن الحياة في القرية إلا مجموعة من أساطير يتم بواسطتها تفسير كل ما يحدث على أرض الواقع، ففي ذات صباح (ارتجت الأرض) وتصايح الناس للحظات حتى إذ هدأت انتهى بهم الأمر لاستذكار (أسطورة الثور) وعرفوا أن الثور قد تعب وأراد أن يريح أحد قرنيه من الثقل الذي يحمله.

اسمي عبدالرحيم وقد تشكل هذا الاسم في صور عديدة بسبب الأسطورة.

ويحق لي أن أقول إني عشت الأسطورة وجدانيا وثقافة.

كل منا يجالس أمه أو أباه ويسأل كيف اختارا له اسمه، وإذا بدأ الحكاية تصل بك إلى ما كان يحدث لك قبل أن تعلم شيئا.

روت لي الوالدة -رحمها الله رحمة واسعة- أن من سماني هو أخي الذي يكبرني إذ جاءها وقال لها:

– لو كان في بطنك ولدا فسمِه عبدالرحيم.

وعبدالرحيم ولي من أولياء الله الصالحين له ضريح يزوره أهالي القرى وجعلت الذاكرة الشعبية من حركة قبره موعدا لقيام الساعة إذ تذهب إلى الاعتقاد أن هذا الرجل الصالح يتحرك قبره سنويا بمقدار شبر متجها للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، ويظل القبر يقطع المسافات حتى إذا وصل قبر عبدالرحيم إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قامت الساعة، ولهذا تجدهم يشجعون هذه الرحلة من خلال أهزوجة يترنمون بها سنويا أو عند زيارتهم لقبره منشدين:

يا عبدالرحيم يا صابر اصبر

إن الله مع الصابرين.

وفي مرحلة تالية تأثر الاسم بطقس العادات إذ إن أهل تهامة يحورون كل الأسماء المنتهية باسم من أسماء الله الحسنى إلى (عبده) بحذف الاسم أو الصفة وإلحاق ضمير الغائب (الهاء) على الاسم لكي يتبارك صاحبه بجميع صفات وأسماء الله الحسنى.

ولأن المنطقة كانت مغمورة في وعاء أسطوري خضع اسمي للتغيير مرة أخرى إذ مرت طفولتي بأمراض عديدة بدءا بشلل الأطفال وتوالي أمراض عرفت في المنطقة كأمراض إما أن يعبرها الطفل وإما أن تنتهي حياته داخل قبر صغير، وكثيرة هي النعوش التي كانت تخرج مع كل شوطة إلى مقبرة القرية .

ولهذا كانت الوالدة -رحمها الله رحمة واسعة- تعدني كمشروع ميت عليه الإسراع بقطع أنفاسه اللاهثة قبل أن يستطيل به الألم، أما هي فقد تدربت على الحزن بفقدان خمسة من أبنائها الذكور أودعتهم المقبرة في سنوات أعمارهم المختلفة، كان يشقيها رؤية هذا الطفل الذي يخوض غمار الأمراض ويخرج منها مواصلا رحلته إلى مرض جديد، كان يشقيها ألمه، وقد تلقت نصيحة من إحدى جاراتها العارفات أن تقوم بتغيير اسم ابنها لكي ينجو من الموت، وتم تغيير اسمي (وهي النبزة التي لازمتني بقية حياتي إذ لا أعرف بسواها بين الأهل والأقارب).

***

عرفت الجن مبكرا من خلال الحكايات ومن خلال الحياة اليومية، فليل القرى شديد الظلمة وقد قيل لنا إن اليوم مقاسمة بيننا نحن البشر والجن الذين يخرجون من مساكنهم في الليل ويعدون إليها مع أول ظهور للشمس..

وثمة تحذيرات أن تذهب إلى الأماكن الخربة ليلا إذ يمكن أن تخطفك الجن ولا تعود إلى أهلك، وتغلظ الوصية للفتيات الجميلات فلربما عشقها جني وجذبها بحيل إلى الفضاء وخطفها وغاص بها إلى سابع أرض، وهناك قصص كثيرة (لرجال ونساء) بأن الجن خطفوهم ولا تقف الحكاية عند هذا الحد بل تواصل سرد قصص هؤلاء المخطوفين مع عودة البعض منهم في شرح ماحدث لهم.

وأهل القرى التهامية يؤكدون أن الجن يقاسمونهم حياتهم في أشياء كثيرة منها الأكل والشرب، فلم نكن نتبول أو نستنجي بعظام أو جلود الحيوانات النافقة أو التبول على روث الحيوانات فهي غذاؤهم ولا ندعس على ظل، وإذا هبت عاصفة وتطايرت الأوراق فإن تطايرها يعني أن جنيا غضب ونادى على أهله بأن ينفخوا معه لذر التراب في عيون البشر وكل ورقة طائرة هي مخبأ لجني يشارك في النفخ فلا يمسك بها إنسي.

والجانب المفرح والذي ينتظره القروي أن يمر به النبي الخضر، فالمحظوظ من عبره وحقق له أحلامه، وحضور النبي الخضر يتمركز في باطن الأودية أو بجوار الآبار وفي ليلة القدر .

وكثير من القرويين يؤمنون بوجود (خاتم الاسم) وإمكانية الحصول عليه. والخاتم في الذاكرة الشعبية هو خاتم النبي سليمان والعثور عليه يحقق لصاحبه كل الأمنيات التي يريدها، كما أن الباحثين عن الثراء لديهم أساطيرهم الأخرى وهي تتبع الثعابين وخاصة (ثعبان أبو جوهرة)، فهذا الثعبان يحمل جوهرة لا تقدر بثمن يحملها معه أينما ذهب وهي بمثابه عينيه اللتين يرى بهما فإذا وصل إلى مكان وضعها وتحرك بحثا عن غذائه ومن رأى تلك الجوهرة عليه أن يضع فوقها (ضفعة) بقرة ويهرب في الحال مغادراً قريته لمدة ثلاثة أيام ولو مكث فإنه ميت ميت لا محالة.

وتواصل الأسطورة حضورها حتى في الموت، فهناك حيوان أسطوري يلقب بـ(النباش) هذا الكائن إذ تم إيذاؤه من أحد فإنه يخرج إليه ليلا متوعدا إياه وصائحا به:

– حلالتي بك

وبعقب عقبك.

فإذا دنا أو مات الموعود بالتهديد فإن على أبنائه أو ذويه حماية قبره لثلاثة أيام بلياليها وإلا قام الحيوان الأسطوري (النباش) بنبش قبر الميت وأكله ميتا.. وتظل اللعنة تلاحق ذريته.

كثيرة هي الأساطير التي عشتها فحين يخسف القمر تقوم النساء بدق وقرقعة الصحون لكي ينبهن القمر بأنه ظل طريقه، وكذلك مع كسوف الشمس تقوم النساء بقلب المطاحن على وجهها إشارة إلى أنهم سيموتون جوعا لو اختفت الشمس كنوع من الاسترضاء وطلب الرحمة.

ولو أردت الاستمرار في ذكر السلوك الحياتي لأبناء القرى فسوف يطول الأمر خاصة اقترانها بأسطورة ما حدثت في مكان ما من هذه المعمورة.

ولن أكون جازما بإعادة كل سلوك إلى زمنيته التي نشأ بها، إذ إن أفعالنا هي إرث حكائي تناقلته الأمم وأدخلته في حياتها كسلوك تعبدي في البدء ومع تطاول العهد تحول إلى سلوك حياتي ومعيشي يمارس من غير مرجعيته الدينية.

فالقروي لا يمكن له أن يطفئ النار من غير أن يذكر اسم الله خشية من أذى قد يلحق به من إطفائه للنار، وهذا مرتبط بالديانة الزردشيتية وإبقاء النار مشتعلة كونها رمزاً للنور الإلهي..

وتسود كلمة (ناهي) على ألسنة بعض أهالي قرى تهامة بمعنى التأمين على ما تقول أو الرضوخ لما تقول، ويرجع الأستاذ حمزة علي لقمان في كتابه أساطير من تاريخ اليمن أن (ناهي) كان إلها يعبد في اليمن، وبسبب الوفرة المهولة للأساطير وانتقالها من حالة تعبدية إلى حالة سلوكية أجدني دائم الترديد من أننا بقايا أساطير وهي جملة لازمتني وقتا طويلا، كملازمة تسجيل وتوثيق هذه الحكايا، وكلما أنغمس في قراءة الأسطورة صادفني فعل ما وعبادة قديمة تحولت إلى سلوك أو عادة في حياتنا الراهنة.

وغدوت مستملحا المقاربة بين السلوك والبحث له عن مرجعية أسطورية إلا أن غزارة الأساطير وتبدل حالها من مكان إلى آخر ينبهك لوجود معظلة فالأسطورة الأولى ولكونها لم تكن مكتوبة فقد غدت معرضة للزيادة والحذف من راوٍ لآخر، وغالبا ما تكون الأسطورة أو الحكاية ذات جوهر واحد إلا أنها تحرف على لسان من يرويها أما استجابة لظرفه الاجتماعي أو الديني أو وفق أهوائه وعدم انسجامه مع الرواية التي سمعها فتجده يضيف شيئا من عنده وهذه الزيادة عندما تنقل لشخص آخر ويقوم الأخير بسرد الحكاية فإن زيادة الراوي الذي سبقه تصبح لبنة جوهرية من لبنات الحكاية وربما يقوم هو أيضا بإضافة لبنة أخرى أو إسقاط حدث آخر وتنتقل الحكاية من مجتمع لآخر وفق هذه الزيادة أو النقص .

وهذه الخصلة لا يسلم منها الوعي أو عدم الوعي فنرى أن جان دي لافونتين (1621- 1695) في مقدمته لحكاياته (حكايات من لافونتين) استقى الكثير منها من حكايات ايسوب وأراد لحكاياته أن تنتعش بلمسات منه تشع فيها الحيوية، والجدة والمرح، فهو لم يكتف بمجرد كتابتها شعرا، بل أضاف جزئيات طريفة من عنده إلى التركيبة القصصية، كما أضاف عشرات الحكايات الأخرى التي تجعل منها وسيلة لقول الكثير مما أراد قوله على طريقته الخاصة، وأيضا نلحظ أن الأسطورة في تشكلها الأول كانت تكتب في قالب شعري وليس سردي، وهذا يعيدنا إلى أن الشعر أداة خانقة كونها تلتزم بشروط الشعر، بينما السرد يمنح السارد فضاء أوسع من الفضاء الشعري، وإذا تحولت الأسطورة من بنيان محكم في الشعر فإنها تتفلت في السرد وخاصة عندما تحولت الأسطورة إلى ملك مشاع ترويها النخبة والعامة، وقد أضر الرواة العامون ببناء الأسطورة ضررا كبيرا من حيث الزيادة والنقصان، وتكييف الأسطورة على واقعهم المعاش.

كما أن وجود الدين جعل الأسطورة تنسلخ من كونها حكاية آلهة إلى كونها حكاية للبشر، ولهذا نلحظ أن الأساطير التي تمت روايتها بعد دخول الإسلام تحريف أساسي فالإله يتحول إلى ملك وآلهة الشر تتحول إلى جن، ونلحظ أيضا أن الإله المغضوب عليه بالمسخ من قبل الإله الأكبر يتم تكييف هذا بأن ساحرا قام بفعل المسخ.

ومن الصعوبة بمكان -بالنسبة لي- أن تجد بناء موحدا لأي أسطورة، إذ تتحول إلى شظايا من الحكايات المتناثرة والتي يتقاسمها البشر كحكايات أو كأفعال غاب بناؤها الحقيقي وتوالدت منه آلاف الحكايات ميزتها الحقيقية أنها باقية وأنها عبرت الزمن ولا زالت باقية.

الجزء الأول من ورقة ألقاها الكاتب في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة في البحرين



[ad_2]

Source link

Leave a Reply