[ad_1]
ومن التعليقات عليها ما كتبه الأستاذ الكريم نجيب يماني في مقالة اعتراضية حادّة الأسلوب، نُشرت في جريدة عكاظ (عدد الجمعة 20 ربيع الأول 1442هـ)، اتهم فيها صاحبَ الذوق المخالف بأنه (جاهل)! وهي معنونة بـ(جرأة الجهل النشِط)، وأخطر ما فيها أنها كشفت لغة التعميم المسيطرة على كثير ممن يعرض لهذه المسائل، وأظهرت التلقي السُّكوني، والانبهار المتربّص بالأذواق الأخرى، الراغب في نسفها، على المبدأ الفرعوني (ما أريكم إلا ما أرى)، وهي بهذا كاشفة ما يتخوّف منه القارئ المتلقي، إذ إنه يكاد يستقر في الأذهان أنْ: لا تنقدْ نتاجاً كثُر مادحوه، و(ابلع) رأيك واغنم العافية.
ولغة الأستاذ نجيب واقعة في ذلك التعميم الذي يبرأ منه النفَس العلمي، والمنهج النقدي الحصيف، قال: «هذا الحكم يصادم إجماعاً يشترك فيه الهواة والمختصون وذوو الدربة»! فالمسألة عنده (إجماع) يشترك فيه كلّ الناس! أفلا يقول أين هذا الإجماع؟ وكيف حكم بأنه يشترك فيه كلّ أولئك؟ ولنلحظ أنه جاء بالألفاظ معرّفةً (الهواة والمختصون وذوو الدربة)، فعمّم تعميماً غريباً! ولو قال (هواة ومختصون) لاقترب من القول المقبول نسبيّاً. ثم تأمل قوله العجيب في أنه يريد أن يستبعد حتى (خيال) النقد، إذ قال: «من ذا الذي يمكن أن يتصوّر أو يتخيّل أنّ رواية بحجم (موسم الهجرة إلى الشّمال)، للأديب العالمي الراحل الطيّب صالح، يمكن أن تكون هدفاً لسهم طائش»! انتبه أيها القارئ الكريم: إياك أن تحلم أو تتصور أن أحداً سينقد قصيدتك المفضّلة، أو روائيك المحبوب! وإذا أردت أن تحلم بذلك، فاستأذن من الأستاذ نجيب، رزقنا الله وإياه أحلاماً مثقفة رحبة الصدر.
ثم تجاوز أخونا نجيب حدود اللياقة حين قال: «فهل ثمّة (عاقل) يقول بأنّ رواية (موسم الهجرة) بسيطة ومألوفة وغير متجاوزة لقدرات الناس، وأنها، على ذيوعها واهتمام الناس بها كلّ هذه الأعوام؛ (فاقدة للسطوع، وقليلة اللمعان)»! فإنه -وفقه الله- انتهى من (اعتقال الأحلام والتصوّرات)، وبلغ حدّ حصر العقل فيمن يوافق هواه، فجعل نقْد الرواية -وإن كان نقداً انطباعيّاً- نافياً عن قائله صفة العقل! أتؤخذ المسائل بهذه الطريقة؟ ألأنك يا أخي نجيب، معجب بالرواية، أو متأثر بمن أعجبوا بها تريد أن تحصر العقل في محبيها؟ (تلك إذن قسمةٌ ضِيزى)!
إن كثيراً ممن دافعوا عن الرواية تعليقاً على تغريدتي -وأنا أحترم أذواقهم، وأرى لهم الحقّ كلّه في أن يمجّدوها- اتّكؤوا على أمور خارجة عن الرواية نفسها، كمسألة تاريخ صدورها، وكأن القِدَم معيار للجودة! وعلى مسألة تعدد طبعاتها، ولو كان تعدد الطبعات معياراً دقيقاً، لأتيتهم بكتب طُبعت عشرات الطبعات، وهي لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، أما الأستاذ نجيب فزاد على ذلك بأن احتجّ بأن الرواية قد (ترجمتها الألسن السائرة إلى لغاتها، واستهدفتها البحوث بالنقد الفاحص، فرأت فيها آفاقاً وأبعاداً ليست خافية على عوام القرّاء)! وهذا كلام مقبول لولا لغته التعميمية وتعبيراته غير الدقيقة، وَهَبْ أنه مقبول جملة وتفصيلاً، فهل يعني أن يصادَر الرأي المخالف؟ مع أن الترجمة لا تكفي لوصف النتاج بأنه ممتاز، فكم من أديب ذي ثراء يستطيع أن يترجم نتاجه إلى كل لغات العالم!
والمسألة التي ينبغي أن نلحّ عليها هنا ليست في أن نبدي آراءنا في رواية الطيب صالح مدحاً أو قدحاً، إن المسألة أوسع، ولنا أن نستحلي وأن نسترذل من الإنتاج الأدبي ما نشاء، ما دمنا لا نسفّه الآراء، ولا نتعالى، ولا نقدح في الأشخاص.
المسألة المهمة هي أننا نتجه صوب ما عبّر عنه الأستاذ محسن بن علي السهيمي في مقالته (أفكار المثقفين ملغومة)، المنشورة في جريدة المدينة (يوم 17/3/1442هـ)، إذ قال، وهو يعرض لبعض ما قيل عن تغريدتي: «إن بعض الردود المسفّهة للرأي المخالف كأنها تقول: إن الرمز الثقافي ينبغي ألا يُمسّ إبداعه… وإن لم يلتفت المثقفون وأتباعهم لأنفسهم، ويراجعوا حالة التقديس والعصمة التي صنعوها لأنفسهم، ويهدموا تلك الأسوار التي أقاموها حول الرمز الثقافي، فستغدو مقولة (أفكار المثقفين ملغومة)، رديفة لمقولة (لحوم العلماء مسمومة)». انتهى كلامه، وهو في الصميم -ومنه استنبطتُ عنوان مقالتي هذه- لأننا حقّاً متجهون إلى تقديس النتاج المشهور، رافضون لأي رأي لا يعجبنا.
إنه لا يصغُر أحد عن أن ينقُد، ولا يكبُر أحد عن أن يُنقَد، ومن حقّ كل قارئ أن يقول رأيه، ومن واجب كلّ صاحب نتاج أن يتقبّل ما يُقال فيه، فكيف بالقول في نتاج غيره؟ وقد قال القدماء: «من ألّف فقد استَهدَف»، أي جعل نفسه هدفاً وغرضاً.
ختاماً، للأستاذ نجيب عليّ حق، لأنه بمقالته تلك، فتح لي صدر جريدة عكاظ، التي لم أنشر فيها من قبل.
ورحم الله الطيب صالح، الذي أثار عمله هذا النقاش، وحرّض على المثاقفة، وهو في قبره.
كاتب سعودي
1401Shfa@
[ad_2]
Source link