[ad_1]
ذهبت إلى أمريكا للدراسة عام 1965 ومكثت هناك 17 سنة (1965-1982) للدراسة عاصرت فيها تحولات جذرية في الشأن الاجتماعي وفي مسار السياسة الداخلية والخارجية لذلك البلد، لعل أبرزها سطوة المكارثية والحرب الفيتنامية وما عاصرتها وتلتها من أحداث.
كانت البعثات الدراسية إلى أمريكا في بداياتها آنذاك، ولم تكن الملحقية الثقافية في نيويورك تتابع مسيرة الطلاب الدراسية بدقة، لكنهم جزاهم الله خيراً -والحق يقال- ما كانوا يقصّرون في إرسال الرواتب بانتظام تام. في سنواتي السبع عشرة التي أمضيتها هناك تنقلت وأقمت في ولايات عدة، من الولايات الجنوبية الأشد محافظة مثل تكساس إلى الولايات الليبرالية في الوسط مثل إنديانا وإلينوي وفي الغرب مثل كاليفورنيا. وقد تجولت في مختلف أرجاء أمريكا وزرت معظم الولايات. بل إنني في أحد فصول العطلة الصيفية قررت بدلاً من الذهاب إلى السعودية أن أتجول بين الولايات الأمريكية من أقصى الشرق في شيكاغو إلى أقصى الغرب في سان فرانسيسكو ذهاباً وإياباً. لكن لم يكن لدي من المال ما يكفي لشراء تذكرة الباص، لذا جمعت لوازم السفر في حقيبة علقتها مع كيس النوم sleeping bag على ظهري وقصدت الطريق العام highway وصرت أشير بيدي للسيارات المسرعة لعلي أجد من يتكرم علي ويقلني لمسافة تطول أو تقصر حسب الوجهة التي يقصدها السائق من سائقي الشاحنات أو طلاب الجامعات الذين يذهبون لزيارة أهاليهم في العطلة، وتدور بيني وبين هؤلاء نقاشات حادة في بعض الأحيان وودية في معظم الأحيان. وكثيراً ما كنت أفترش كيس النوم وأنام في البراري على قارعة الطرق الصحراوية. وقد استغرقت رحلتي تلك أكثر من شهر رأيت فيها أمريكا وتعرفت عليها عن كثب. ولا أظنك تجد مكاناً يضاهي أمريكا لا في تنوع بيئاتها وجمال الطبيعة الأخاذ ولا في انفتاح الشعب الأمريكي وتقبله للشعوب الأخرى.
أثناء وجودي هناك عاصرت المسيرات الطلابية الحاشدة المؤيدة أو المضادة للعديد من القضايا المحلية والدولية، ابتداء بمعارضة الحرب الفيتنامية والتجنيد الإجباري إلى فضيحة ووترغيت watergate عام 1968 وإقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، وقضايا أخرى مثل قضايا العنصرية والبيئة وجماعة الخضر وحركات الداعمين للمثلية وقضايا حقوق المرأة وتمكين النساء gender equality. في بداياتي الأولى هناك كثيراً ما شاركت في هذه المسيرات لا قناعة بطروحاتهم وإنما للجلوس على موائد الكرام، لأن المسيرة غالباً بعد ما تنتهي فيها ثني ركبة وجلوس على سماط فيه ما لذ وطاب، يعني كشته مودرن في الحدائق الغناء على شواطئ البحيرات. لكنني في ما بعد صرت أشارك في هذه المسيرات عن وعي ورغبة في التعرف على مضامينها وأهدافها.
وبعدما انتقلت إلى جامعة بيركلي حيث يتمركز قادة الراديكالية واليسار الأمريكي، كنت حينها قد كبرت واعرست وعقلت، وشيئاً فشيئاً بدأت أسبر غور هذه الحركات وأتمعن في أهدافها ومآلاتها.
النتيجة التي خرجت بها هي أن من لم يتغلغلوا في صميم الثقافة الأمريكية خصوصاً، والغربية عموماً، قد تخدعهم المظاهر فيحسبوا الشحم في من شحمه ورم. فقد لاحظت أن هذه المسيرات وما تتضمنه من قضايا تبدأ متواضعة وصادقة في نواياها، لكنها بالتدريج تأخذ زخماً وتبدأ نسبها ترتفع في استطلاعات الرأي إلى أن تتحول إلى قضية شأن عام. وما إن تستشعر أي حركة من هذه الحركات موطن قوتها وتبدأ بالتدريج تنبت لها أسنان تعض بها وأيد تبطش بها حتى تتحول إلى حركة سياسية لها ما لها من التطلعات والمطامح وتنقلب شعاراتها مع الوقت إلى أدوات هيمنة وسيطرة أخلاقية وإلى أدوات قوة ووسائل لبسط السلطة لكسب مغانم سياسية.
ولحسن حظ الولايات المتحدة فإن نظامها السياسي، خلافاً لأنظمة دول العالم الثالث، أعمق وأرسخ من أن تهزه هذه المظاهرات والمسيرات، حيث إن لديه من اللدانة والمرونة ما يمكنه من استيعابها والقفز على متطلباتها. تكون هذه الحركات مرفوضة في بداياتها من السياسيين التقليديين والمحافظين الذين يشكلون الأغلبية في مفاصل السلطة السياسية. إلا أنه ما إن تكتسح حركة من هذه الحركات جمهور الشارع حتى يدرك السياسيون المحنكون مكامن القوة فيها فيبدأوا بالتملق لها والتسلق عليها، ليس بالضرورة إيماناً منهم بعدالة القضايا التي تتبناها بل لأنهم يرون فيها وسائل وأسباباً يصلون من خلالها إلى المناصب العامة ومراكز القيادة. يختطف الساسة المحترفون هذه القضايا المحقة والعادلة في أساسها لتتحول على أيديهم إلى أوراق أشبه بأوراق لعبة البوكر فيجعلوا منها منصات ينطلقون منها وأجنحة يطيرون بها في عالم السياسة والقوة والنفوذ. ولغموض فحوى الكثير من هذه القضايا وضبابيتها وسهولة تحويرها في أي اتجاه يصبح من السهل توظيفها كأداة من أدوات الهيمنة وكأسلحة فعالة تُدَّخر للاستعمال في أوقات الخلافات السياسية في لعبة الأمم. وهذه هي لعبة السياسة؛ إنها لعبة قوة وتمكين وليست لعبة أخلاق ودين.
ليس هذا في السياسة الداخلية فقط، بل إن الساسة المحترفين يعملون على تحوير هذه المفاهيم والمقاصد النبيلة للمحتجين لتصبح في أيديهم أدوات فتاكة للتنمر والهيمنة القيمية والثقافية على دول العالم الثالث وتضليل شعوبها. ما يساعدهم في ذلك هو أن هيمنة الغرب الثقافية والإعلامية جعلت من قضاياه وهمومه قضايا أممية عابرة للحدود يستخدمها كأدوات فعالة من أدوات الضغط والهيمنة وبسط النفوذ دون احترام للخصوصيات الثقافية والسياق التاريخي والظروف الاجتماعية لكل بلد، لا سيما مع تطور وسائل الإعلام وبرامج التواصل الاجتماعي وسهولة فبركة الأخبار. إنها لعبة المصالح وبسط الهيمنة والنفوذ وليس الحرص على رفاهية الشعوب ورعاية مصالحها. يدّعون الدفاع عن قضايا الإنسان وهم الأقل اكتراثاً بالإنسان.
لقد استغرق الأمر مني بعض السنين لأصل إلى هذا الاستنتاج. وأول ما لفت انتباهي وقادني لهذه النتيجة هو سلوكيات «الشباب» و«الشابات» الذين عادة ما تغص بهم الساحات الاحتجاجية، خصوصاً الأكثر تطرفاً منهم مثل التروتسكيين والماركسيين. فلا أحد من هؤلاء رفعته قناعاته الليبرالية والاشتراكية إلى مقام الملائكة، ولا جعلت منه شخصاً استثنائياً في السلوك والأخلاقيات، بل وجدتهم أشرس من غيرهم في استخدام العنف والتدليس لتحقيق أهدافهم وبرامجهم. وفي مظاهراتهم واحتجاجاتهم وجدتهم الأكثر لجوءاً إلى ممارسات لا يقرها العرف ولا الدستور. فقد لاحظت أنهم كانوا أشد ضراوة في عداوتهم وفجوراً في خصومتهم، حتى لبعضهم البعض، من الشخص العادي الذي يتبنى أخلاقيات المواطن المسالم الذي لا يلتزم بعقيدتهم وفكرهم. وما إن يتخرج هؤلاء وينخرطوا في عالم الوظيفة حتى تجد معظمهم يتنكرون لماضيهم الراديكالي ويلهثون وراء المال والمنصب والجاه.
من مناقشتي لهؤلاء وجدت أن مفهوم الأخوة الإنسانية التي يتغنون بها هي عملية حسابية بحتة منزوعة الدسم الإنساني، فهي تقتصر فقط على النسبة المستحقة لك من صافي الدخل القومي، أما مفاهيم الرحمة والشفقة والفزعة فهذه لا ترد في قواميسهم. حتى حفلاتهم في الأعياد ونهاية الأسبوع حفلات صاخبة قلما تخلو من البذاءة والعنف. وقد يُلينون لك الجانب في بداية تعرفهم عليك لكنها مجرد خدعة ساذجة يحاولون من خلالها إغراءك بالانضمام إلى القطيع. والتاريخ يشهد على أن الأنظمة اليسارية الشمولية التي قامت على دعوى أن هدفها أن تنتزع للإنسان حريته وحقوقه كانت عموماً من أشد الأنظمة قهراً وتعسفاً وانتزاعاً لحرية الإنسان وتنكراً لحقوقه.
الدرس الذي استفدته من احتكاكي ومخالطتي للحركات الراديكالية في الوسط الأمريكي وفي كاليفورنيا غرباً أن الفكر الراديكالي لا يجعل منك إنساناً رؤوفاً بأخيك الإنسان وإنما وجدت الرأفة والأخوة الإنسانية في الجنوب الأمريكي في تكساس حيث التمسك بتعاليم المسيح والأخوة الإنسانية.
هذه ليست نبذة مقتطفة من مشروع كتابة سيرة ذاتية. ما قصدته هنا هو التحذير من الوقوع في حبائل شعارات مدعي الليبرالية وخدعة حقوق الإنسان ولعبة الرأي والرأي الآخر. فالكثير من القضايا المشروعة تتحول في أيدي الساسة المحترفين إلى شعارات وأدوات للتحكم بالعقول وتوجيه الآراء وتشويه صورة الآخر. رسالتي هي ألا ننخدع بكل ناعق، فلو دققنا النظر لرأينا وراء الأكمة ما وراءها. علمتني تجارب الحياة أن يكون حكمي على أي تحرك أو فعل سياسي مبنياً على المآلات والإنجازات وليس على الشعارات والهتافات.
[ad_2]
Source link